13 سبتمبر 2025

تسجيل

عبد الله الروائي

31 ديسمبر 2012

 مساء بعيد في مستشفى مدينة بورتسودان، وكنا ننتظر تجهيز غرفة العمليات، لبتر ساق لمتسكع ليلي، أصابه طلق من سلاح عسكري، كان يحرس منع التجول في الساعات المتأخرة من الليل. كنا أمام غرفة كبير الممرضين عبد الله منصور، وكان شيخا غزير السنوات، لكن بنيانه المتماسك، وتحركه النشط، وأصباغ الشعر وشهادة تسنين قوية الحجة، كل ذلك أبقاه في الخدمة العامة لم تطله يد " الستين " الخشنة والقوية، والطاردة لسواعد الرجال. كان عبد الله منصور حكاء، وكانت مجالس الحكي التي يديرها أمام غرفته المتواضعة في ليالي المناوبات، تشد آذان الكثيرين من أطباء وممرضين ومرضى ومرافقين، لكنه في ذلك اليوم كان يكلمني، وكنت مستمتعا، فقد كنت بالفعل في تلك الليلة قارئا لرواية سحرية عظيمة. قال كبير الممرضين يحدثني: حدث ذلك في بداية الخمسينيات، حين كانت الخدمات الطبية شحيحة جدا ولا تتوفر إلا في المدن، وكانت القرى تفتقر حتى لمعاون صحي بسيط، لقد استلمنا في أحد الأيام بلاغا بوجود مصاب مطعون في بطنه في شجار قبلي، في أحد أماكن تجمعات الرحل المنتشرة خلف الجبال، وقد أبلغنا بذلك أعرابي كان يركب جملا، وقد وصل إلى المدينة بعد أن استغرق عشرين يوما في الطريق. ركبنا في عربة للإسعاف تابعة للمستشفى برفقة الأعرابي، وتوغلنا في وسط الجبال والدروب الوعرة، نجوع ونعطش، ونتوه ونستدل، مستغرقين خمسة عشر يوما، حتى وصلنا إلى موقع المصاب وكانت أمامنا مفاجأة: فقد كان المطعون معطرا بعطر الشاكوين المحلي، ومزينا يغطي شعره الودق، وقد لفت أحشاءه المدلوقة خارج البطن بخرقة نظيفة، وكان يحمل سيفا وعصا ويرقص وسط الأغنيات المحلية وزغاريد الصبيات، فقد كان يوم عرسه. حاولنا الإمساك به وجره إلى عربة الإسعاف، لكنه صرعنا جميعا واستمر في احتفاله الكبير غير عابئ بتحذيري وتحذير ممرض آخر كان برفقتنا. جلسنا في القرية شهرا كاملا، كنا متوترين ونافدي الصبر، ننتظر انتهاء شهر العسل حتى نقوم بمهمتنا، وكنا في كل صباح جديد نقوم بزيارة المصاب في خيمته، نغسل أحشاءه بملح الطعام ونلفها بشاش معقم، ونجبره على تناول بعض ( السلفا ) حتى انتهى ذلك الشهر المرير، وعدنا به إلى المدينة. كانت الرحلة هذه المرة شاقة للغاية فقد كنا في عراك مستمر مع العريس المطعون الذي كان يسأل عن عروسه، ويحاول القفز من العربة كلما أعاقتها حفرة أو اعترضها جبل، وكانت خمسة عشر يوما أخرى مريرة حتى وصلنا إلى المدينة، وسلمنا المصاب إلى قسم الجراحة لترتيق أحشائه). كان عبد الله منصور يلهث، وكان يقطع الحكي بين حين وآخر، بتثاؤب متقطع أو قسم غليظ، وحين انتهى سألني فجأة:  هل تعرف " عثمان أوهاج" الذي كان شرطيا في المستشفى وانتقل منه العام الماضي؟ قلت: نعم - إنه ولد المصاب البكر، وقد رزق بعده بسبعة آخرين. كانت في حلقي أسئلة كثيرة، وكانت ثمة حوارات ومداخل تجتاحني، لكن غرفة البتر كانت جاهزة، وكان علي أن أنصرف.