13 سبتمبر 2025

تسجيل

لمَ هذا الجفاء بين الظاهرة والمنظور؟

31 أغسطس 2022

يسري في الأذهان العربية، وبأثرٍ من القضايا السياسية الملتهبة التي ألمَّتَ بجسد الإنسان العربي المثخن ولا تزال، أن المسألة الجامعة للإشكال العربي السائد - منذ قرن ويزيد - هي مسألة سياسيّة من الطراز الأول، وأن العلاج على هذا الوجه لابد إذن أن يكون سياسيًّا بامتياز. يمثّل نسق التفكير هذا - إلى جانب واقعيّته الصلبة - مذهبًا فكريًّا وُلِدَ بين الحربين العالميتين، ونما واكتمل قوامه بين عقول ونوازع بعض القانونيين الدستوريين الألمان المتألمّين من وقع هزيمتهم في نهاية الحرب الأولى عام ١٩١٨م، ليجدوا أنفسهم منحازين إلى فكرةِ أن كل الأشياء بات مُسيّسة، لذا ينبغي وفي المقابل: تسييس كل شيء، ليس ذلك بحثًا عن النهوض أو استردادًا للكرامة فحسب، إنّما أيضًا تسليمًا لافتراض أن السياسة وحدها قد أحكمتْ قبضتها على الفضاء الأوروبي والعالمي بأكمله. رأى أقطاب ذلك التيار، وسلائله المنحدرين من الفلسفة القانونية المعاصرة، أنه لا مناص من تسييس العلم والمعرفة والاقتصاد، ولا مفرّ من احتكار تأويل الظواهر المركبة والمختلفة في المنظور السياسي وحده، من دون إعطاء المنظورات الأخرى قدرًا فاعلًا من التفسير. والحق أنها أفكار تولّدت في فضاءٍ متشائم، جَثَم على العقول و(أخذ بتلابيبها). إنه ليصدق بصورة كبيرة أن يكون جذر الواقع العربي المأزوم هو: جذر السياسة وتعقيداتها وأحابيلها، وما تنتجه من إشكالات فرعية كثيرة، تأخذ شكل الهرم الذي تتسع قاعدته اتساعًا مستفيضًا، حتى ليبدو من الصعب - في تأزّمها الغائر المتواتر- أن يُحاط بها، فضلًا عن معالجتها، فيتشكّل إزاء هذا المنظور المُسيَّس: يأس فردي وجماعي غامر، وعابر للبنى الاجتماعية العربية كلها. إطباقُ حالة اليأس هذه ليس إلا نتيجةُ اعتقادٍ مُطلَقٍ - لدى السواد الأعظم- بأمرين أساسيين: أن المداخل المُفضية إلى حل مشكلات الواقع الراهن إما أن تكون سياسية الأصل أو الطابع أو الأدوات، وأنه في حال كان العربي عاجزًا عن مجابهة الأصل السياسي وتغيير قواعد اللعبة، أو تكييف قدراته مع الطابع السياسي وتوجيهه، أو استملاك ما يكفي من الأدوات السياسية وتوظيفها، فسيبقى مُكبّلًا بالأغلال، ما بقيَ الدهر. بالرغم من شيوع هذه القناعة وامتدادها، إلا أنها لم تستطع احتكار المشهد في العقود السبعة السابقة من تاريخ العرب، إذ برزت العديد من الأصوات النقدية التي قدمت مقاربات مختلفة، دينية واجتماعية وثقافية واقتصادية، حول القاعدة التي ينبغي الانطلاق منها بغرض الخروج من حالة العجز الكلي إلى موقف الفاعلية الحضارية. ما يجدر الالتفات إليه بعد هذه السطور السابقة، هو تلك المفارقة التي تقع في صلب البنية السياسية العربية، ومفادها أن أولويات الإصلاح وأساليبه داخل الدولة العربية الواحدة، تختلف عن تلك الأولويات الإصلاحية التي تعم الأقطار العربية الكاملة. ولا يعني اختلافُها تناقضَها بصورة مباشرة، ولكنه يحيل إليه في نهاية المطاف. يتجه الإصلاح لدى الدولة العربية المستقلة نحو تنمية المشاريع الوطنية عبر إرساء بنية تحتية، وتأمين المصالح الأمنية من خلال تأسيس منظومة عسكرية، وتأمين الشروط السيادية عن طريق بناء علاقات تحالفية ضرورية في المستويين الإقليمي والدولي. في حين يتمحور الإصلاح في الجغرافيا العربية الممتدة من الخليج إلى المحيط، حول الوحدة والاندماج وتوحيد الصف/الموقف. يبرز هذا الاختلاف بوصفه المصدر الذي تتولّد منه رؤيتان متمايزتان، رؤية مُسيَّسَة بالكامل على الصعيد العربي الجامع، ورؤية أخرى تنطوي على منظورات لا مركزية على صعيد القُطْر العربي الواحد، والمقصود باللامركزية هنا هو أن تصورات الفاعلين في الدولة القُطْرية العربية تجاه مسائل الإصلاح والنهوض وطرق علاج الظواهر والقضايا المتجددة غير مُركَزة في عدسةٍ واحدة، بل يتكامل فيها النظر السياسي مع النظر الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والتاريخي. ليس التقسيم الآنف بجديد. حيث إن الاضطراب الناجم عن تفارق الرؤيتين: ماثلٌ بجلاء تام، ماثلٌ في سياسات الدول العربية ومواقفها وخلافاتها وتبريراتها المعاصرة، كالخلاف حول القضية الفلسطينية، ومتجسد تاريخيًّا في نماذج من قبيل حرب اليمن ١٩٦٢-١٩٧٠م، والحرب الأهلية اللبنانية ١٩٧٥-١٩٩٠م، وغزو الكويت ١٩٩٠-١٩٩١م، وغير ذلك. لقد أصبح القُطْر العربي بعد مسيرته التاريخية العاصفة المتراكمة، فضاءً قائمًا بذاته، ومُنتجًا أصيلًا لذواته الخاصة به، ومولِدًا لتصورات، ذات خصوصيةٍ، مشدودة إلى حدودها الجغرافية، ودوائرها الضيّقة، قبل كل شيء آخر. بينما احتالت صورة الوطن العربي الموحّد إلى ضرب من الرمز السادر في مخيال الأجيال الصاعدة، بقدر ما كان حُلمًا في وعي آبائهم وأجدادهم. تخرج علينا، من عباءة هذه الحقيقة، حقيقةٌ أخرى تقول إن الظاهرة المؤسسية أو المجتمعية -أي ظاهرة- في البلد العربي، هي ظاهرة شديدة التركيب لا يمكن التعاطي معها بشكل سليم، إلا عبر طريقين، الأول: حصر شتّى الأبعاد التي تتشكّل منها الظاهرة، ودراستها على نحو يجمعُ بين تتبع أثرِ البُعْد الواحد بمفرده، على حِدَة، وبين تحليل الأبعاد جميعها، في ذات الآن، وعدم قصرها على منظور أوحد، إطلاقًا، ولو على سبيل التبسيط. الثاني: البحث عن مدى امتداد الظاهرة بشكلٍ يتوسع تدريجيًّا، أي استقصائها ورصدها في النطاق المحلي، فالإقليمي القريب، فالإقليمي البعيد، فالقارّي، فالعالمي، من أجل تحديد معالم المقارنة، التي يمكن عقدها بين بلد وآخر. إننا لو طبّقنا الخطوات الآنفة على تشخيص/دراسة ظاهرة ارتفاع نسبة الطلاق مثلًا أو القروض الاستهلاكية، أو ما شابهها من ظواهر بدأت تبرز في المجتمع القطري، فسيكون باستطاعتنا أن نقارب وجهات نظر دقيقة تجاهها، وأن نداول التصورات الواعية، أمام حيثيات مثل تلك الظواهر وملابساتها، وهذا بلا شك سيمهّد الأمر إلى تشكّل ذهنيّة واعية، تفهم ذاتها، وتشعر بمحيطها، وقادرة على التكيّف وإيجاد الحلول. [email protected]