29 أكتوبر 2025

تسجيل

اللغة العربية في سياق منقسم

20 أكتوبر 2022

سمعتُ في أحد المجالس، معلومةً حول أثر تدريس العلوم الأكاديمية باللغة العربية، تقول: حينما كان الطبيب السوري ينتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية مُهاجرًا أو متدربًا أو طالبًا للزمالة، ويبدأ بمزاولة الطب في مستشفياتها، فإنه يكون الأمهر والأبرع والأسرع تطوّرًا من بين كل الأطباء العرب غير الناطقين بالإنجليزية، كلغة أولى. السبب وراء ذلك ببساطة هو لأن الطب في جامعات سورية يُدرّس باللغة العربية، بينما تعتمد الأكاديميات في الدول العربية الأخرى -بلا استثناء- تدريس الطب وغيره من العلوم بلغات أخرى، مُفضّلةً أن تستعير العلوم استعارة، وفي دفقة واحدة. هذا يعني أن مضامين العلم في المؤسسات العلمية في سورية (قبل الثورة) مثل: المصادر العلمية والمراجع البحثية في حقل الطب، المكتوبة بلغات أجنبية، قد تُرجمِتْ إلى العربية ترجمةً لا بد أن تكون على قدرٍ عال من العِلميّة والدقة، ثم قُدّمت إلى الطالب الجامعي في سورية، ليدْرسها باللغة الأم الساكنة أحشاء عقله، والتي لا يحتاج معها إلى وسيط بينه وبين أي علمٍ كان. تُعَدّ الحقيقة السابقة عيّنة بيّنة، ويستطيع كلُّ عاقلٍ أن يختبر صحّتها بنفسه، وليس ثمة حاجة إلى التفصيل فيها، ذلك إن عملية تحصيل العلوم بلغة ثانية، وسيطة، غالبًا ما تعتريها صعوبات كثيرة على مستويات عدة، مثل مستوى: تلقّي العلم، ومستوى إدراكه، ومستوى بناء الفهم، ثم التأصيل أي: ضم الفروع إلى أصولها، وصولًا إلى تمثّل كُليّات العلم في الذهن وأجزاءه تمثّلًا واضحًا. تحصيل كل ما سبق سيواجه مشكلة تتعلّق بدرجة تفاعل الدماغ البشري مع الأدوات اللغوية المختلفة عن تلك الأدوات التي اعتادها. بخلاف لو كانت اللغة العلمية هي اللغة الأولى. واللغة الأولى في الأصل، وفي الغالب الأعم، ضربٌ من البرمجة الذهنية التي تصوغ عملية إدراك الوجود وتفكيكه وتركيبه لدى الإنسان. وهذه المسألة الآنفة، بالتحديد، كانت ولا تزال محلَّ نزاع طويل بين اللغويين، والألسنيين. حيث انقسم القوم إلى مذاهبَ، وانحازوا إلى فرق، وانتسبوا إلى آراء ينأى بعضها عن بعض من أبرزها تيّار يرى بأن نظرة الإنسان إلى العالم تختلف باختلاف لغته، على اعتبار أن اللغة وعاءٌ من المفاهيم والتصورات التي تراكمت حدًّا أصبحت تمثّلُ فيه خصوصيةًّ ثقافية، مقابل خصوصيّات ثقافيّةٍ أخرى تنعكس -بطبيعة الحال- في لغاتٍ أخرى. وتيّارٌ آخر يشدّد على أن العالم سيظل متشابهًا لدى الإنسان سواء كان شرقيًّا أم غربيًّا، وأن اللغة ليست سوى نظام من العلامات والأصوات يستهدف إيصال المعنى وحسب، بينما يظل تصوّر هذا الوجود متعاليًّا عن شروط اللغة ووظائفها، فلذا يصعب تقسيم العالم إلى أنساق لغوية نماذجية، كل نسق منها قائم بذاته ويحمل في داخله معطيات هي بالضرورة متمايزة من حيث الرؤية والنتيجة. وقد يبدو أن حال اللغة العربية لدى الأسر القطرية، والمجتمع عامّةً، منقسم بين مسارات متعددة. نجمت هذه المسارات -في الأصل- عن التحوّلات الاقتصادية والسياسية والمؤسسية في الدولة، ونتجت كذلك عن مشاريع التحديث البنيوية التي بدأت منذ مطالع سبعينات القرن الماضي. وقد خاضت -تلك المشاريع- مُدَدًا تنوّعت وتيرة السرعة فيها من مُدّة إلى أخرى. إذ إن حجم عمليات التحديث ومعدل تسارعها بدءًا من الألفية الجديدة: كبير وعال، مقارنةً مع مرحلة التسعينات والثمانينات وما قبلها. وأرى أن المقام يحدوني هنا إلى التنويه على مسألة منهجية جديرٌ أن يُشار إليها. إن تحقيب تاريخنا المعاصر، أي تقسيمه إلى حِقَبْ عَقْديّة متعددة، بمعنى: تصنيف كل عقد من العقود الماضية تصنيفًا مستقلًّا، والنظر إلى عَقْدْ السبعينات -مثلًا- بصفته يمثّل مرحلة ذات سمات وأنماط متشابهة خاصّة به لوحده، ثم استنتاج -بناء على ذلك- أنه يختلف بطبيعته وظروفه ونسقه المعرفي عن عقد الثمانينات، وأن الثمانينات تختلف بدورها عن التسعينات، وهكذا دواليك. ثم اعتبار أن محصّلة جُل هذه الاختلافات هي انتساب الفرد من الناحية الذهنية والتصوّرية والثقافية إلى العقد الذي وُلِدَ فيه. ليكون المولود عام ١٩٨١م مثلًا أقرب إلى الذي وُلِدَ في ١٩٨٩م، منه إلى المولود في ١٩٧٩م. إن هذا التحقيب والتنسيب لا شك أنهما يخلوان من أي منطق، بل هما إلى الشعبوية ألصق. كما إن تقسيم المراحل التاريخية بناء على العقد الزمني: أبعد ما يكون عن الدقة، لكونه تقسيما إحصائيا جامدا، يتمركز حول السَنَة المُرقَّمَة، بما هي سَنَة. والسَّنَة -ليت شعري- هل تستطيع الإنباء أو الإفصاح عن مضمونٍ ما ذي دلالة؟ إذا كانت خالية من حدثٍ إمّا أن يكون مكمّلًا لنظام نسقيٍّ قائم، أو حدثٍ يكون قاطعًا ومؤسِسًا لنظام نسقيٍّ جديد. على أية حال، نؤوب إلى المسارات الاجتماعية في قطر، التي اجترحتها مشاريع التحديث حول الموقف من اللغة العربية واللغات الحديثة، فنقسمّها -بشيءٍ من التعميم - إلى أربع شرائح اجتماعية: الأولى: تعتقد بوجوب ترسيخ اللغة العربية كلغة أولى، وأن للحاضنة الأسرية دورا مركزيا في سبيل ذلك. تغلب على أرباب الأسرة فيها النزعةُ التديّنية، ولديهم حد متوسط-عالٍ من التصورات الواعية بذاتهم وبمحيطهم وانتمائهم، تجعلهم يلحقون صغارهم بحلقات التحفيظ القرآنية، ومتابعة التحصيل العربي عندهم. هذه الفئة باتت أقلية قليلة في المجتمع. كما أن جُلّ الأسر المنتمين إلى هذه الدائرة ينعمون باستقرار يطبع علاقة الزوجين ويحفظ انسجام الأسرة وتماسكها. والتماسك الأسري هنا لا يعني أنه السبب الأوحد المُشكِّل لهذه الذهنيّة. الثانية: تستشعر قيمة اللغة العربية، من منطلق يجمع بين مقتضيات الانتماء الهوياتي والثقافي الديني، ولكنها تجد صعوبة في الموازنة بين أعبائها الوظيفية والتزاماتها الاجتماعية ونوازعها الرفاهية، مما يحول دون تعميق العربية في التكوين العلمي واللغوي لأبنائها وبناتها. فتُسنَد كل المهمة إلى المؤسسات التعليمية حكومية أو خاصة، والهدف الأكبر بالنسبة لها هو نجاح صغارها، لا تعلُّمهِم. الناتج الطبيعي من هذا المنزع هو نشوء فئة من الجيل الصاعد ضعيفة الصلة بكلتا اللغتين، هجينة الذهن، مقسومةً بينهما، لا إلى هذه ولا إلى تلك. ويتبدّى عليها سمات القلق الذاتي. الثالثة: حيادية إزاء ضرورة تعليم اللغة العربية، أو ربما حيادها هذا أقرب إلى كونه قصورًا بليغًا من جهة الإحساس بالمسؤولية، موازاة مع اعتقادها بأهمية تكييف أبنائها في سوق العمل، المنحاز -عالميًّا ورأسماليًّا- إلى اللغة الإنجليزية بصفتها لغة المعرفة والتقنية الحديثة. وهذه الشريحة أصبحت -وفق اللقاءات الاجتماعية المتواترة والانطباع المتراكم- هي الأغلبية السائدة، في مجتمع قطر. الرابعة: متأثرة بتدفق الثقافة الغربية، عبر إما الدراسة في مؤسسات مدرسية/أكاديمية غربية. أو الاحتكاك ببيئات غربية وأقوام غربيين وإقامة علاقات تواصل. أو التلقي الاستهلاكي للبضائع والمنتجات الغربية المختلفة، أو حتى مسايرتها لمحيط اجتماعي يتقمّص أو يتبنّى أدوات الاتصال والمعرفة الغربية. تعيش هذه الشريحة قطيعةً تامّة بأصولها الثقافية والتاريخية العربية، ويقتصر انتماؤها على شكليات المراسيم الاجتماعية. بل إن علاقتها بعمقها العربي أصبحن مرتبكات، ومُسامَةً بأشكال الخجل والاضطراب. تبرز هذه الشريحة أيّما بروز في الأماكن المفتوحة ونجدها تحديدًا لدى بعض الأمهات اللائي يخاطبن أبناءهن وبناتهن باللغة الإنجليزية، اعتقادًا منهن -ربما- بتفوّق الجرس الموسيقي الإنجليزي. أو بسبب تفضيلهن لنوع من اللطافة الذوقية الكائنة في لغة الإنجليز، وكيف أن صغارهن حين يعبّرون بالأحرف والمفردات الإنجليزية فإن ذلك يكون آسرًا وساحرًا ومعُزّزًا لشعور الأمومة، المتخيّلة، ويا لها من أمومة مقلوبة. أما الآباء المنتمون إلى هذه الشريحة، فهم إما يلقون عبء التربية على الأمهات. أو ينساقون إلى تعزيز هذه البنية الثقافية الدخيلة على حساب البنية الثقافية الطبيعية لأن شروط العصر وأحواله قد حتّمت هذا الانسياق. أو ينخرطون نحو تعزيزها بما هي الثقافة الوحيدة الضامنة للتفوق والتقدم والنجاح؛ وهذه مأساة أخرى. إن التقسيم الآنف، لا يعكس المشهد الأدق للتحول الثقافي داخل الأسر القطرية (ولاسيّما موقفها من المعرفة واللغة) في العقود الثلاثة الأخيرة؛ بقدر ما يعكس المشهد العام الجامع للاتجاهات القائمة داخل هذا التحول. يعني ذلك أن عملية التأطير الرباعية للشرائح الاجتماعية بحاجة إلى المزيد من التتبع الإحصائي والفحص التجريبي والتوثّق المتمهّل، رغم حالة الركض التي نعيشها وحالة التباعد التي نعمّقها، وحالة الانفلات الاجتماعي التي بدأت تلوح بعضُ إرهاصاتها.