14 سبتمبر 2025
تسجيلتأخذ القضايا - كما هو معهود- حيّزًا متواصلًا في تفكير أصحابها أو مُعايشيها، ما دامت تنعكس بشكل ملموس على الواقع اليومي، أو -أقل القليل- على الغَدِ القريب. يجعلُ التجاذبُ القلقُ منها واقعًا ماديًّا لا بُدَّ من احتواء آثاره، وتقليصه في أدنى حدٍّ ممكن. هذا في حال لم يسنح المجال بعلاجه أو تجاوزه. ما من قضية إلا ولها حل، يكمن في مكان ما، وينبغي استظهاره بتأنٍ وتَؤُدَة، واستيعابه بالنجاعة المُتوخّاة، وتعريفه بدقّة تامة. وحين يتبدّى الحل بشكل واضح، وبوصفه حلّا مُحدّدًا لمُشكلةٍ مُحددة، فليس ثمة تبرير يحول دون الأخذ به وفق الشروط الزمانية والمكانية، وبغض النظر عن الاعتبارات الإكراهية التي قد تتراءى لدى المسؤول. ولو فرضًا -كما هو حاصل في معظم البلدان النامية- قرر الفاعل في مؤسسة تنفيذية ما، أو هيئة حكومية ما، تأجيلَ النظر في تطبيق إجراءات الحل، ولاسيّما بعد تبيّنها، فإن المشكلة لا شك أنها منقادة بوجه أو بآخر إلى حلّها المؤجَلِ هذا، ولو طال الدهر، واستطال المطاف. هذا التمهيد الآنف هو من جنس البدهيات، حول شؤون الواقع وهواجسه. ثم لتبرز لنا في هكذا سياق: قضيةُ الزواج والطلاق وانخفاض معدلات الخصوبة في قطر بما هي إشكالية مستجدة، تفاقمت تدريجيًّا منذ الثمانينات، ولم تُسكَّن حتى هذا اليوم. في البدء، وقبل الإحاطة بأهم دلالات هذه الظاهرة مرورًا بالتباساتها وصولًا إلى أسئلتها الولود، من الضروري الإشارة إلى مسألة جوهرية تتعلق بحقيقةٍ تحكم محددات النطاق الاجتماعي في قطر، وهي أن المجتمع القطري: مجتمعٌ حديث. ينسى أو يتناسى العديد من الباحثين والمثقفّين، والمهتمّين بالشأن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في البلاد، الذين تدرُجُ ألسنتهم بمصطلح الدولة الحديثة ليلًا ونهارًا، إن المجتمع في قطر هو أكثر حداثةً من الدولة، وإنَّ لهذه الحقيقة لوازم واعتبارات ونتائج، تستلزم ضرورةَ التفكير في القضايا الاجتماعية ليس فقط من منظور مقابلتها بالدور المؤسسي الذي يؤثر فيها سلبًا وإيجابًا، بل أيضًا بقياسها على المعطيات التاريخية المهيمنة على طبيعة اتجاهات وسلوكيات الفرد والجماعة، بعضهم ببعض. تُفضي حداثة المجتمع إلى حقيقة أخرى تقول: إن التركيبات الاجتماعية المتنوعة التي تُعبّر عن المكون الاجتماعي القطري المعاصر، وبما هي تركيبات تحملُ في طيّاتها اختلافًا خصائصيًّا على مستوى بعض العناصر الهُويّاتية الصغرى - لدى مختلف الجماعات- مثل اللهجة وما تكتنزه من مخزون ثقافي وما تستبطنه من ذاكرةٍ تقاليديّة، فإنها لا محالة آيلة إلى التناقض. ولكنه تناقض لا يعبر عن محض صراع؛ بل هو أقرب إلى أن يكون تجسيدًا لمرحلة تاريخية، شبه- حتميّة، تُؤَخَذُ فيها التباينات الاجتماعية نحو الانصهار في الوسط المدني المشترك المُعبّر عنه بالدولة. وينبغي الانتباه إليه في هذا المقام إلى أن عملية الانصهار الاجتماعي ليست سوى ولادة جديدةٍ لثقافةٍ وذهنيةٍ جديدتين؛ وإنها انعكاس برهاني لجِدّة المجتمع وحداثته، كما أنها مؤذنة بتحولات نسبيّة تمس الخريطة الاجتماعية وتعيد تشكيل بنية الهُويّة الوطنية، أي تلك الأولويات المتعلقة بمسألة الانتماء الدولتي والمجتمعي وعواملها ومستوياتها، إلى جانب إعادة إنتاج المخيال السياسي لدى الجيل الذي وُلِدَ حديثًا، والأجيال التي لم تولد بعد، بأشكال وأنماط مختلفة. والحق إن هذه التحوّلات تمثّل القنطرة الأساسية التي ينتقل عبرها التكوين الاجتماعي الكلي من وضعيته التشكيلية الأولى المتسمة باتساع الفجوات بين شرائح المجال الاجتماعي، إلى الوضعية الأكثر تطوّرًا من حيث ارتفاع نسبة التجانس بين أفراد المجتمع. يبقى المذكور آنفًا بمثابة التعميم النظري الذي يهدف إلى رسمِ معالم الانتقال الافتراضية للمجتمع الحديث في الخليج والجزيرة العربية، وذلك من منطلق كونه لا يزال حديثًا ويعيش مخاضات متسارعة أغفلتها ولا تزال أعين التشخيص، وأفلتت هي بدورها عن أيدي النقد والتحليل المُواكِب لها. ورّث ضعف الرصد لدى - ليس عموم الناس وحسب، بل أيضًا لدى- الفئة المتعلمة والمثقفة: قصورًا في تقييم الظواهر الاجتماعية وفضلًا عن فهم كوامنها حال وقوعها، واستيعاب سيروراتها بعد وقوعها، ما أنتج بدوره - ولا يزال- قصورًا مُضاعفًا في تَبَيُّنِ مآلات البنية الاجتماعية. ربما استغرقتْ الفكرة السابقة مساحةً أكبر من التوضيح ما كان ينبغي لها ذلك لولا أهميتها التأسيسية، ومركزيّتها الكبرى -على الأقل عندي- في مقام التفكير الاجتماعي الخليجي. ومن ثمّ، فإن قضية انخفاض معدل الخصوبة في المجتمع القطري، الناتجة أصالةً عن انحسار حالات الزواج وتزايد حالات الطلاق بشكل نسبّي، فترةً تلوَ فترة، ينبغي في الحقيقة أن تُقاس من منظور الحقيقة الاجتماعية المذكورة أعلاه، إلى جانب عوامل عديدة (داخلية وخارجية) لا تقل أهميّة، بل هي تتواشج على نحوٍ جدليٍّ مع حَداثَة المجتمع والدولة. في السياق الداخلي، فقد مرّت الدولة بنقلة في منتصف التسعينيات، مثّلت بدورها حركة تصحيحية، اكتنفت تحوّلًا جذريًّا في تاريخ الدولة من جهة، وولادة جديدة لها من جهة أخرى. قاد مشروع النهضة الجديد، الذي ارتكز على الطفرة الاقتصادية ومداخيلها الضخمة، إلى: تطوير السوق القطرية، والاستثمار في مشاريع تعليمية كبرى، واستقدام وتأسيس مراكز البحث المختلفة، وتحويل وسائل الإعلام إلى مستوى أعلى من التفاعل والتأثير. وساهم كل ما سبق في نحت نموذج الرفاه الذي ترعرع في إطاره الجيل الحديث. والرفاه هنا بوصفه نموذجًا فإنه يتمظهر -أيضًا- في تقدّم المؤسسات التعليمية وتطورها، وارتفاع متوسط نسبة الخرّيجين الأكاديميين، وتوسّع سوق العمل، وتمكين المرأة؛ إذ أنه ليس مجرد رفاه شرائي أو استهلاكيّ. وسنرى كيف أن انخفاض معدل الخصوبة أخذ يتضاءل طوال تمرحل الفترة الممتدة من منتصف التسعينيات حتى هذه اللحظة، فيما قد يبيّن نوعًا من العلاقة الطردية بين مشكلات الخصوبة والتحولات الاقتصادية الواقعة في العقود الثلاثة الأخيرة. أما على الصعيد الخارجي، فقد أخذت النَقَلاتُ الثورية في الإعلام الحديث الجيلَ الصاعدَ في المجتمعات الخليجية نحو وعيٍ جديد يكاد يقطع مع سابقه. وأدّى انكشاف الأنماط الثقافية وغشيانها الهواتف المحمولة والأجهزة الإلكترونية المستخدمة على نطاق واسع، إلى تعاظمِ حالةٍ من التجاذب الثقافي. جاء هذا التجاذب متزامنًا مع نشوء مئات من الجيل القطري الصاعد: ذي نزعةٍ غربيةٍّ في تكوينه المعرفي، وفي نسق تفكيره. ويعود سبب ذلك إلى أنه إما قد درس في جامعات غربية أو لأنه تخرّجَ من الجامعات الأمريكية المنضوية تحت ما يعرف بالمدينة التعليمية، ثم تشرّب -إثر ذلك- قدرًا مضاعفًا من ثقافتها بانسياق لا-واعي أو إعجاب شديد لا حيلة له عليه، ولأسباب يطول شرحها. وفق الإحصاءات السكانية التي أجريت منذ منتصف الثمانينات في الدولة، واستنادًا إلى التقرير المنشور بعنوان «٩ عوامل وراء تراجع معدلات الخصوبة في قطر» تاريخ ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٢، (وهو تقرير يتناول مشروع معهد الدوحة الدولي للأسرة حول المحددات الاجتماعية للخصوبة في دولة قطر والتبعات السياساتية)، فإن معدل الخصوبة الكلية -الذي يقيس عدد المواليد الذي يمكن للمرأة أن تنجبه طوال حياتها- قد نقص من ٤.٦٪ في ١٩٩٧م إلى ٢.٩ في ٢٠١٧م. استنتج أغلب الباحثين الذين حاولوا فهم الأسباب الكامنة خلف هذا الانخفاض: أنّ اتساع شروط التعليم ومستوياته، وتمدد سوق العمل ومتطلباته، يُعدّان هما السببان الأبرز خلف تباطؤ معدلات الزواج، وارتفاع حالات الطلاق في قطر. وإليهما يُنسب الدور الأكبر وراء شعور الفرد - ذكرًا وأنثى- بالاستقلاليّة، والاستقلالية الماديّة على وجه التحديد، بحيث بدأ بعض الرجال ينظرون إلى منظومة الزواج بصفتها مجموعة من الأعباء المُكلْفِة، وكذلك الحال مع بعض النساء اللائي أخذن يتصوّرن الزواج باعتباره تقييدًا لحريّتهن أو طموحهن. لا خلاف على أن المحصلة التعليمية والعملية تُعَدّ عاملا من العوامل الرئيسة في مفاقمة هذه الظاهرة التي صرنا نعيشها - بما هي هاجس يتهدد مستقبل النسيج السكّاني- وذلك من جهة: أثر التعليم العالي وما يحتويه من انفتاح على نُظُم اجتماعية أخرى، على تبدُّلِ بعض التصورات تجاه فكرة الزواج. ودور العمل وما يستلزمه من وقت وما يؤديه من أجر، في تحوّل المعايير الناظمة لمؤسسة الزواج لدى الجيل المعاصر. يمكن حصر قَوام هذه التحوّلات في الفكرة الأساسية التالية: إن فكرة الزواج وبدلًا من أن تنبني على أساس تساكني وتراحمي تام، يشبع حاجة الزوجين ويحقق لهما الأمان العاطفي والنفسي، فقد أصبحت مُعرّضةً للتسليع الاقتصادي الذي يقاربها وفق منطق الربح والخسارة ويخضعها لقانون العرض والطلب. فيحدث كثيرًا أن تكون الأسباب المؤدية إلى العزوف عن الزواج، أو تلك المؤدية إلى الطلاق، هي نتاجُ قناعة ثاوية في ذهن النساء والرجال تتمحور حول سؤال «ما الذي لي؟ ثم ما الذي علي؟»، وهي قناعة ليست انعكاسًا لمبدأ الحقوق والواجبات، كما قد يُتصوَّر، بل هي مجرّد تَمَثُّلٍ عارمٍ لطغيان النماذج المعرفية - المادية على فضاء الذهنيات الاجتماعية السائدة، واقعًا وافتراضًا. وحسب الإحصاءات المنشورة على موقع جهاز التخطيط والإحصاء، وفي عملية حسابية استنتاجية سريعة، بوسعنا أن نتبين واقعية هذه المشكلة، التي ربما تتحول في يوم الأيام القريبة إلى معضلة حقيقية، ففي الفترة بين أغسطس ٢٠٢٠ ويوليو ٢٠٢٢ - أي العامين الماضيين- شهدت حالات الزواج انخفاضًا بنسبة ٣٤.٢٪ لدى الذكور، و٣٨٪ لدى الإناث. في حين بلغ إجمالي حالات الطلاق ارتفاعًا قدره ٣١.٨٪ لدى الذكور، و٣٦٪ لدى الإناث. إن هذه المعلومات الآنفة تقوّض الفكرة الشعبوية الرائجة الظانّة قولًا بأن فترة وباء كوفيد قد حفّزت الزواج ورفعت نسبته، ولكن لغة الأرقام أصدق شاهدًا، وأبلغ دلالة. يبقى القول بأن شتّى هذه التحولات إنّما تستدعي منا إعادة التفكير في الرهانات التي تحكم مسارَ انتقال المجتمع. كما تبقى ثمة تساؤلات مُلحّة، كأنما تجثم على العقل والضمير: ألا يعني التحول في معدلات الخصوبة تحوّلًا في القيم والتصورات والتفضيلات الاجتماعية؟ وهل هذه إلا تحولات للهُويّة، أي تمخّضات على مستوى أسس البنية الاجتماعية؟ ما الشكل الذي سيكون عليه المجتمع بعد عشر سنين/ عشرين سنة؟ هل تساءلنا عن ذلك تساؤلًا جادًّا؟ وكيف يمكن أن نفهم المسألة وأن نعالجها؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ *المقصود بلفظ حداثة في كل مواضع المقال هو كون الأمر حديثا وجديدا من الناحية الزمنية، لا منظومة الأفكار الخاصة بالحداثة.