29 أكتوبر 2025
تسجيلمَرّت قرابة العشرة أيّام منذ انقضاء بطولة كأس العالم. غادرت أفواجُ الجماهير، وبقي منهم من وقع حُسنُ البلادِ في نفسه موقعًا عميقًا فأراد اكتشاف المزيد من معالمها. رجع المقيمون الذين اضطرتهم الأحوال أن يقضوا إجازة البطولة حيث أهلهم وأحبّاؤهم، واُستؤنفت «الدوامات» بنسبة كاملة مطلع هذا الأسبوع، بعد أن كان العمل في أغلب مؤسسات وأجهزة القطاع العام مقصورًا على حضور ٢٠٪ فقط من الموظفين. انتشر -والبطولة على مشارف انتهائها- قولٌ يُفيد أن هنالك ما يُسمّى «اكتئاب ما بعد المونديال» يُصيب البلد المنظّم للحدث، وهي حالة نفسية تتلبّس ساكنيّ البلد، تتراوح بين الشوق والحزن بسبب انتهاء فعاليات البطولة، وعودة كل شيء تقريبًا إلى الحالة الطبيعية الروتينية. الإنسان مطواع لشروط البقاء حيثما كانت، قادرٌ على التكيّف في وعائها. وإنسان الخليج والجزيرة العربية عبر فصول تاريخ الزمن الحديث الذي عاشه تحت ظروف طقسية قاسية، قد استطاع أن يُوجِدَ لنفسه -على الدوام- قُدرة «المُضيّ قُدُمًا». ومما يشجيني -في أحيان كثيرة- ويدعوني إلى التفكّر هو اطّراد العلاقة العكسية التي باتت مشهودة -أقلُّهُ عندي- بين ارتفاع منسوب الرفاه وتدنّي نسبة التأقلم. تبرز هذه العلاقة تحديدًا عند الجيل الشبابي، والجيل الصاعد. يجد الشاب -بصفة عامة- صعوبة عالية في الخروج من أجواء حدثٍ كرنفالي والرجوع إلى أجواء الروتين الدائم. يشعر وكأنه سجينُ نسق من الأنساق الشعورية، أما لحظة القطيعة التي تفصله عن حالة الشعور المطبقة عليه، فإنها غالبًا ما تمرّ بأطوار من التحرر التدريجي، إلى أن يصل الشاب نفسيا وذهنيا للوضع الطبيعي المستقر. ومن أبرز مظاهر حالة التوق إلى بقاء أجواء الحدث العارمة، وحالة عدم تقبّل حقيقة أن البلاد قد رجعت إلى عهدها هو وصول الإنتاجية عند الفرد الشاب إلى مستوى منخفض. وقد يأخذ هذا المستوى فترة من الوقت -تتفاوت من فرد لآخر- حتى يرتفع إلى المستوى المعهود. لقد أضاح لنا كأس العالم قطر ٢٠٢٢ عن العديد من الدلالات المتعلقة بإمكانات الدولة وقوّتها، وهي إمكانات ذات طبيعة مختلفة، أما تلك القوة فإنّما تُعبّر عن نموذج خاصٍّ بها. (شهد أن مفهوم القوة -كما هو معلوم- انشطارات عديدة إذ أصبح أوسع بكثير من مجرد القوة المادية/الصلبة). وفي حين انصرفت أغلب الأبصار التي شاهدت حيثيات البطولة -من أَلَفِها إلى يائها- نحو كفاءة الإدارة وجودة التنظيم وبراعة تصميم الملاعب، قليلة تلك الأعين التي شخصت إلى مآل كل هذه الاستحقاقات من حيث كونها تأكيد فصيح على علوِّ ثقة الدولة بنفسها. المشاريع الكبرى للدول في عمومها -ولاسيّما تلك المشاريع التي تكون في ساحةٍ تنافسيّةٍ تتسابق فيها الدول إلى نوالِها- ليست مشاريع ذاتَ بُعدٍ خارجيٍ فحسب؛ بل إنّها في الدرجة الأولى مشاريع تحدّي داخلي، تسعى الدول من خلال تحصيلها وتنظيمها إلى إثبات ذاتها. عندما قررت القيادة في قطر أن تتحدى دولًا كبرى في ملف استضافة كأس العالم ٢٠٢٢، مثّل هذا القرار إثباتًا نظريًّا للذات. وبعدما نجحت الدولة في هذا التفوق النظري، رمت بثقلها نحو الاستعداد للبطولة بشكلٍ ملموس. ومن ثم حققت الدولة كما شهدنا نجاحًا استثنائيًا -بكل الأبعاد والمقاييس- قادها إلى إثبات ذاتها إثباتًا عمليًّا أمام شهود البشرية. بل إن الإثبات العملي للذات القطرية في الساحة الدولية لم يقتصر على استعراض كل تلك القدرات المادية والإعلامية واللوجستية المتنوعة التي حازتها الدولة، إنّما امتد نطاقُهُ ليشمل تقديم الثقافة المحلية وامتداداتها العربية والإسلامية كأبهى ما يكون هذا التقديم. مما تدوول في قنوات التواصل الاجتماعي -عربيًّا- أن قطر قدّمت للعالمِ دروسًا مجانية في القوة الناعمة؛ والحق أني بتُّ أتحفظ على استخدام مصطلح «القوة الناعمة» لفرط ما اُستخدم من قِبَلِ القاصي والداني، فكأنه قد تحوّل -مع كثرة الاستخدام- إلى مصطلح وصفيٍّ يُراد منه اختزال طيف واسع من الأفعال السياسية البنّاءة المتنوعة في إطارٍ واحد لا غير. وقد أراني أميّز نوعًا جديدًا مختلفًا من القوة الاستراتيجية التي يمكن أن نسمّيها «القوة المُشرقة»، ذلك أن الإشراق لا يمكن حجبه ولا مقاومته. ولأن الإشراق أيضًا ناصع وممتد وفيّاض. شاهدُ الفكرة التي أريد إيصالها بهذا الشأن، هو أن ميدان التفاعلات السياسية يتسع شيئًا فشيئًا حتى لقد يبدو أفسح بكثير من إمكانية تأطيره في مجموعة قليلة من الاصطلاحات. إنها قطرُ «القوة المشرقة» إذن، التي أشعلت مدارات الكوكب البشري رغم مصاعب الطريق، ورغم بعض الآلام. هي البلاد التي لا نريد لوهجها أن يخفت، ولا لنورها أن يتضاءل، بالتضحية، بالعرق، بالدماء، بكل ما يقتضيه الحال، بأي ثمن ذهني أو روحي، وليُسَمِّهِ المُسمّي ما يشاء. على أن رايتها الخفّاقة، لسنا نرضى -في الوقت عينه- أن تخفق إلا بالعز والعدالة والإحسان. وعندئذ، هنا، وهناك، وفي كل كور من أكوار الدنيا، ما أكثر ما بُهِتَ المُتربّصون أمام رايةِ البلاد المشرقة، ما أكثر ما نكص المُرجفون على أعقابهم، وبَقيت قطر تعانق «هامَ السحايب والرعود»، كما يقول الشاعر الكبير فالح العجلان. لقد حرصت الدولة في السنوات السابقة على تأهيل المجتمع تأهيلًا نفسيًّا للبطولة، فضخّت عبر كلّ قنوات التواصل الداخليّة جرعات عالية من أهميتها، حتى خُيّل لدى البعض أنه حدثٌ من «طينة» الأحداث الجذرية. أي تلك الأحداث التي تنقل البلدان نقلةً جديدة، وبكل ما تحمله الجِدّةُ من معنى. سرت قناعةٌ عميقةٌ في عروق الشعب -خاصّة عند القوى الوطنية العاملة في القطاع العام- نتيجةَ تمحور الكثرة الكاثرة من مشاريع الدولة حول كأس العالم بأنه الحدث الأضخم في تاريخ المكان والإنسان، حتى بدا أن لحظة ما بعد البطولة هي لحظةٌ عصية على التخيّل. وها نحن اليوم قد وصلنا مرحلة «الما بعد» هذه. وفي الواقع، فإن كأس العالم هو حلقة حيوية في سلسلة نهضتنا المستمرة، وينبغي أن يُنظر إليه على هذا النحو، بل ينبغي أن يعمل القطري كل يومٍ بموجب هذا الاعتبار. أما الآن، فإن الفرصة قد توانت لاستخلاص القلة القليلة من الأشواك التي صاحبت المنتوج الهائل لثمار هذه البطولة، ودراسة المحصلة الواسعة للمشهد العام بتفاصيله. آن الأوان لقياس مواطن النجاح وأسبابه، بقدر حاجتنا إلى الوقوف على بعض مكامن القصور الاعتيادية (فهو جهد بشري في الأخير) من أجل تطوير كافة القدرات. ولا يمكن أن تكتمل الاستفادة، وأن تصل إلى أقصى نطاقاتها إلا باستحضار الضرورة في البحث عن ماهيّة الخطوة النوعية الجديدة، المُكمّلة لاستحقاقات المرحلة وطموحاتها. ولو سُئلت ما هي هذه الخطوة الممكنة؟ لأجبت إجابةً مجازية ومقصودة ترتدي لبوس السؤال: لم لا ننظم كأس عالم ثقافي؟