13 سبتمبر 2025
تسجيل(١) يأبى القلم أن يستلين في هذا المقام التاريخي الذي تَبَوّأتَه بلادُنا الكريمة قطر، أو بالأحرى انتزعتَهُ انتزاعاً، وعن جدارة. وعلامَ يُلامُ القلمُ إذا اشتدّت حبسته وأصبح القول عليه عصيًّا؟ علامَ يُلامُ وهو واجِدٌ نفسه -هذه اللحظة- أمام دهشة الإنجاز التي ينبغي الاحتفاء بها حتى آخر رمق؟. ثم ألا يكون حقيقاً على امرئ مثلي - في مقام مثل هذا- أن يعيش في كنف الفرحة وجموحها؟ بدلًا - وعلى سبيل المثال- من الانهمام نحو كتابة حدثٍ يمكن الكتابة عنه في وقتٍ قريبٍ قادم؟ منذ شهرٍ ويزيد، واسم «قطر» يطوي الأرض من كُلِّ جِهاتِها.. شهرٌ كاملٌ من التاريخ المعاصر، كأنّما قد توقّفت فيه أزمنة الأحداث والوقائع والهموم والهواجس الأخرى، والتفتت أعينُ الأرض كلها إلى شُهودِ قصّة الإبداع المونديالية التي نَسجَتَها قطر، وأصْخَت أذانها إلى سماعِ الصوت القطري صادحاً وحده. (٢) لا يختلف اثنان حول قدرة الإنسان المتجددة على إنتاج الأفكار الخلّاقة -وعلى نحوٍ يوميّ- ولكنهما لا يختلفان أيضًا حول عجزه عن تحويل أغلب أفكاره إلى مشاريع عملية ملموسة. تختلف العوائق التي تحول دون إمكانية تنفيذ الفكرة عند الإنسان، وتستفيض في اختلافها هذا، ولكن أي فكرة، لا يمكن لها -ولكي تتحقق- أن تستغني عن الرؤية والمُضيّ والعزم. ليس بوسع الفكرة -من أجل الوصول- أن تتخلّى عن الإيمان الذي أتقن وصفه الحسن البصري رحمه الله حين قال: «الإيمان ما وَقَرَ في القلب وصَدَّقَه العمل». (٣) كانت كأس العالم في بادئ أمرها مجرّد فكرة حالمة. (وقلة قليلة فقط من القطريين الذين عرفوا تفاصيل نشأة هذه الفكرة وتطوّرها، وعما إذا كان منشؤها جاء في مطالع الألفية أم ما قبل ذلك، مع أني أرجّح أنها تعود لنهاية التسعينيات الميلادية). لم تكن المعطيات الواقعية المتوافرة آنذاك كافية لأن تلعب دور الدعائم البنيوية القادرة على تحويل الفكرة إلى رهان حقيقي مُمكن؛ إذ تحيط بها مجموعة هائلة من التحديات الداخلية والخارجية. حتى لقد بدا أن تلبيتها -آنذاك- ليس إلّا ضربًا من ضروب التمنّي الغارق في مثاليّته. ولو أن أحدهم قال هذه الكلمات في مجلس من مجالس قطر، قبل عشرين عاما: «سننظّم بطولة كأس العالم، وسنجمع البشرية من كل حدبٍ وصوب، سنعرّفهم على ثقافتنا أحسن تعريف، وسننجح في تنظيمها نجاحًا منقطع النظير، وستكون نسخة لا مثيل لها من قبل» لهزأ منه الحاضرون وضحكوا عليه، وكيف لا؟ وهم يعيشون -وقتذاك- في واقعٍ مناقض لمقولة هذا الرجل الحالم. (٤) ما الذي حصل إذن؟ وكيف نفهمه؟ يصعب عليّ تلخيصُ هذه السيرة الكثيفة في مُجرّد مقال، فهي تمتد منذ ما يزيد على العقد والنصف، وتحديدًا منذ آسياد الدوحة ٢٠٠٦ التي تُعَدّ باكورة الأحداث الرياضية الكبيرة في عهد سمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني. بل هي تعود إلى ما قبل ذلك. إنها -باختصار- سيرة قطر المعاصرة التي وُلِدَت في يونيو ١٩٩٥م. وُلِدَتْ قطرنا -التي نعيش تحت ظلها الظليل اليوم- في تجاويف آخر عقد من عقود الألفية الثانية الذي كان يشهد مخاضًا عسيرًا من التحولات العالمية، وقد حُفَّ طريق صعودها بالعديد من المخاطر التي استطاعت -بعد توفيق الله وحنكة قائدها- أن تتجاوزها. والحق أنه ليس هناك ما هو أكثر صعوبة من محاولة استيعاب منجز من منجزات الدولة خلال العقدين الماضيين -باختلاف طبيعته- دون العودة إلى الجذور الجديدة التي غرسها سمو الأمير الوالد في طول الدولة وعرضها، واستقراء دورها وتتبع تطوراتها وفهم تأثيراتها. (٥) في تجربتنا القطرية المعاصرة، تظهر هُنالك سلسلة من السببيات الواضحة التي لا تخطئها العين، تمثّل هذه السببيات المشاريع الاستراتيجية التي رسمت القيادةُ تصوراتَها، وتولّت زمامَ تنفيذها عبر القطاعات المختلفة. تندرجُ هذه السببيات ضمن رؤيةٍ صارمةٍ لخطّ سير مشاريع الدولة. فكأن كل مشروع منها سببٌ أو بوّابةٌ لمشروعٍ آخر ضمن مسارٍ تصاعدي، وتوسّعي في الآن نفسه. لم يُولَد مشروعٌ واحد من مشاريع الدولة -في عهدي سمو الأمير وسمو الأمير الوالد- بمحض الصدفة، ولم يأتِ نتيجة سياق غير مقصود. وقلّما أُقيمَ حدث من الأحداث الرياضية لمجرّد أن هناك فرصة قد توانت لتنظيمه. ومن دون مبالغة، فمعظم المناسبات التي أُنجزت قد أُعِدَّ لها إعداد مُسبَق ومدروس، قياسًا على معرفة دقيقة لمستوى الإمكانات، وتقصٍّ يقظ لحجم الفرص ومواقيتها. (٦) للفيلسوف الأسكتلندي توماس كارليل كتابٌ مشهور اسمه «الأبطال». استعرض في ثناياه سِتَّ صُوَرٍ، من صور أبطال التاريخ -حسب وجهة نظره-. مثّل كلُّ بطل منهم مجالًا مستقلاً عن مجالِ البطلِ الآخر. فوجد كارليل صورة «البطل النبي» في شخصية رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه، ووجد في شكسبير ودانتي شخصية البطل في صورة شاعر، وهلمّ جرّا. وضع كارليل في كتابه هذا جانبًا عريضًا من رؤيته للتاريخ الإنساني، بل أذاب في متن مؤلفه هذا محصولًا مركزيًّا من تصوُّرِه لفلسفة التاريخ، حيث يرى أن التاريخ إنّما يُصنَعُ من قبل الأفراد ذوي الهمم الخارقة. أولئك الذين يكون بمستطاعهم التغلب على الإكراهات الطبيعية والقيود البشرية. ينتصر كارليل هنا للفاعلية على البنية، أي إذا كان مجتمع الظواهر الإنسانية يتكون من بنية تجسّد المؤسسات والقوانين والأعراف والتقاليد والحتميات، فاعلية تجسّد النوايا والرغبات والتصورات والطموحات والأفعال. وإذا كانت البنية غالبًا ما تكون هي الأكثر تأثيرًا في مسار التطور البشري من الفاعلية التي غالبًا ما تكون انعكاسًا للفرد؛ فإن كارليل يرى أن العكس هو الصحيح، وأن التاريخ قد حقق انعطافاته الحاسمة بفضل قدرة أولئك الأفراد على صناعة التغيير وإدارته. قال كارليل مقالته هذه في منتصف القرن التاسع عشر، وعارضه فيها خلقٌ كثر، الذي يهمّني في هذا السياق هو استحضار رؤية كارليل وحسب. إذ إنها تتلاءم في كثير من مضامينها مع ما أنا بصدده. كما أن بينها وبين النموذج القطري العديد من التقاطعات، وليس في ذلك اقتطاع ولا رغبوية ولا إسقاط بتاتًا البتة. هل كانت النهضة القطرية المعاصرة -بعيدًا عن الالتباسات المشروعة وغير المشروعة حولها- نتاجَ كتلة تاريخية مثلًا؟ أم أن الفرد فيها كان اللاعب الأكبر؟ وربما الوحيد. (٧) سأحاول تقديم إجابة موجزة جدًّا، للسؤالين الواردين في الفقرة الرابعة أعلاه. أولًّا: كَرَّرتُ في مواضع سابقة، أن المجتمع القطري هو مجتمعٌ حديثٌ. وهو حديثٌ بقدر حداثة أجهزة الدولة ومؤسساتها، هذا في حال لم يكن في واقع الأمر أحدثُ منها، تُعَدُّ هذه الحقيقة أصلا مركزيا في معادلة فهم الحالة القطرية، واستيعاب ظواهرها المختلفة. ثانيًا: إن حالة البساطة التي كانت تعتري المجتمع القطري في الثمانينيات والتسعينيات، وهو في ذلك الوقت كان لا يزال يكبر شيئًا فشيئًا، إضافةً إلى حالة الركود التي أَطْبَقَتْ على آلية إنتاج الدولة جرّاء النزاعات السياسية الخارجية المحيطة، قد أدّت -كلٌّ من هاتين الحالتين- إلى تحفيز نخبة قيادية جديدة، ثم أسهمت إسهامًا كبيرًا في دفع هذه النخبة نحو المبادرة الحاسمة، وذلك في ضوء ما تمتلكه البلاد من طاقات كامنة يمكن تفعيلها. ثالثًا: وَجَدَتْ النخبة الصاعدة في التسعينيات أنها إزاء مجتمع صغير -لا يفتأ يتشكّل- يعاني من الجمود النسبي الملحوظ، وهو في أَمَسِّ الحاجة إلى من يبعث في أوصاله روح العمل، ويأخذ به إلى مرحلة نوعية جديدة. من هنا اُستحدِثَت ركائز لنقل الدولة والمجتمع من حال إلى آخر، من أهم هذه الركائز هو التعليم العالي. وفي رأيي أن تاريخ التعليم العالي المعاصر في قطر هو نافذة أوليّة لقراءة تحولات العقدين الماضيين. رابعًا: رُوعِيَ في عملية الانتقال -دعوني أسمّيها الانتقال الثاني- من التقليد إلى التحديث الربط بين المشاريع الحيوية مثل الاستثمار في التعليم والأمن والبنية التحتية، وبين توظيف هذه المشاريع في أحداث كبيرة، فكأن العلاقة بينهما طردية. بل إني أذهب إلى أبعد من ذلك وأقول لولا وجود تصوّر عملي لتنظيم أحداث عالمية لما اكتسبت المشاريع الحيوية كلّ ذلك الاهتمام الضخم. (٨) بدأت كأس العالم بالعرضة وانتهت بالبشت، وبينهما سيرة ناصعة من المواقف التي وطّدت قيمنا ومبادئنا وأعرافنا أمام أفواج العالم، لم تكن مجرد حدث رياضي، إنّما كانت منبرًا شامخًا رسخّت فيه القيادة القطرية بلسان العرب والقطريين عُمقَ انتمائها واعتزازها بالثقافة العربية والإسلامية.