15 سبتمبر 2025

تسجيل

التعقيد شبح الحياة العصرية

31 أغسطس 2021

تفتقر حياتنا الحديثة إلى مفهوم البساطة حيث تمتد يد التعقيد فتطال أبعاد حياتنا بل وفضاءاتنا التي أصبحت مشوشة وأكثر تشابكاً، وباتت تؤثر حتى على أمزجتنا ومساحات تفكيرنا التي أصبحت مكتظة فلا سبيل للهدوء والتأني الفكري. وإذ نلاحظ أن هناك شعورا بالتخمة الفكرية، فالأفكار متضاربة ومتشاحنة وسريعة تتزامن مع الحياة المعقدة الممتلئة فلا تأخذ وقتها الكافي في المعالجة والتحضير في مصنع العقل فتتزاحم الأفكار دون هوادة على أعتاب الذهن نتيجة لرتم الحياة المتسارع، فيعاني الإنسان من وطأة هذه الأفكار التي ترهق عقله وتستنزف طاقته. وتعزز مظاهر التعقيد على مستوى بيئة الانسان من تفاقم هذا الشعور، إذ فشلت المنازل في هذا الوقت من توفير الراحة والاسترخاء لقاطنيها، بعد أن ضاقت بالمقتنيات والماديات وشغلت مساحات كبيرة من المنزل دون نفع حقيقي لها سوى التظاهر والتفاخر وحب الامتلاك، بيد أن الراحة الحقيقية تكمن في البساطة فالمنزل البسيط المرتب المتوفر على الحاجات الأساسية يعطي راحة للعين وانشراحاً للقلب، فلا نعجب اليوم من ضيق الصدور الذي بات ملازماً للنفوس فالمساحات داخل النفس وخارجها أصبحت ضيقة. كما أن بيئة العمل لا تختلف كثيراً فتجد بعض المكاتب لبعض المسؤولين بعيدة كل البعد عن الهدف الذي أوجدت من أجله، حيث دلائل الرفاهية تتمظهر هنا وهناك ولا يرتضي البعض سوى بالأجهزة الحديثة حتى وإن كان ليجهل كيفية استخدامها، فقد رأيت بعض المسؤولين الذين يحرصون على أن توفر الدولة لهم أحدث الأجهزة ولكنهم يعجزون حتى عن استخدامها فهي كباقي الأثاث يجتهد في توفيره حتى تكتمل الصورة وتلك طامة أخرى وشكل آخر من أشكال التعقيد. ولقد لعبت التطبيقات المختلفة ووسائل التواصل الاجتماعي دوراً كبيراً في الحياة المعقدة حيث انكمشت صورة الحياة في هذه المنابر، فباتت وسيلة للعلم والتعلم والمرح والتسلية والاجتماعات والاعمال والتواصل وبناء العلاقات الالكترونية البائسة، وبث كمية المعلومات والآراء المتضاربة التي ما انفكت تربك التفكير وترهق العقل وتهلك النفس فيما يصدق منها وما لا يصدق، كما وساهمت بشكل شرس في تنمية ثقافة الاستهلاك التي يعتاش عليها رواد هذه التطبيقات فيجد الإنسان نفسه في شقوة السعي للحصول على كل جديد يتم التسويق له من خلالها حتى يغذي شعوره بالعصرية ومواكبة التطور فالآخرون ليسوا أفضل منه حالاً وسعادةً، فالبعض يربط الشعور بالسعادة بحياة الناس المزيفة التي يحاولون تصنعها أمام الشاشات، فتحترق روحه في سبيل تقليدهم حتى يرضي ذلك الشعور الذي لن يتحقق أبداً من هذا المنظور! الذي لن يمنحك السعادة بل سلبك إياها كما سلبك الراحة والسلام والسكينة وكافأك بشعور القلق والخوف والضيق والتكالب على الدنيا والسخط وعدم الرضا والقناعة بنعم الله عليك وهذا بعيداً عن الإيمان والاستسلام لله والرضوخ لمقاديره. ويبرز لنا وجه آخر من وجوه التعقيد الذي غلف حياتنا بصورة المتعددة، فبينما كان الإنسان قديما يرضى بصنف من الطعام يسد رمقه أصبح اليوم في ظل الحياة المعقدة يحتار فيما يأكل وأين يأكل! حيث تضاعفت أماكن تقديم الطعام وتعاظم التنافس فيما بينها على تقديم أشكال معقدة من الأصناف والألوان لجذب الزبائن الذين يعانون من شره الاستهلاك فيأكلون كل شيء في أي وقت! وبسبب وبدون سبب! ومثل ذلك التنوع والتفضيلات في مختلف الأمور والأشياء، وهنا يستنزف العقل طاقته أمام سيول الاختيارات وتشعبها في الحياة فهو مجبر على الاختيار والتفكير السريع في البدائل والاحتمالات المتاحة والمتنوعة، ولو تمعنا قليلاً فإن معظم إجهاد العقل يومياً يأتي من هذه الناحية فالخيارات جزلة في كل شيء وهذا من شأنه أن يجهد العقل ويثقل كاهله بينما لو قمت بتحديد بعض الأمور وجعلها أكثر سهولة وبساطة لوفرت جهد العقل وقوة تركيزه على الأمور الأكثر أهمية! ولكي نقلل من عنف الاستهلاك وشراسته يتوجب علينا أن نرفع من ثقافة الاكتفاء فرغبات النفس دائماً في ازدياد وإن لم تُكبح جماحها فليس لها حدود للشبع، يقول البارئ عزّ وجل " أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ " وهي جملة تعبر عن الاعجاز القرآني في اختزال المعنى نعم الهاكم التكاثر عن دينكم، أخلاقكم، أبنائكم، بيوتكم، ذويكم وحياتكم الصالحة. وتطال يد التعقيد فتعبث في العلاقات التي أصبحت غير مفهومة على نحو مخيف، فلا صداقات حقيقية ولا علاقات أسرية ثابتة، فالعلاقات أصبحت هشة هينة؛ ولم لا؟! وهناك البديل الذي يمنح السلوان! كما لم يعد الإنسان يفكر بأخيه ومدى احتياجه إليه فمقدار حاجة الانسان للآخر أصبحت تختزل على المصلحة والفائدة، أما القيم الأخرى وحسن التعامل والوفاء لم يعد يشغل بال أحد فخسران الأشخاص لم يعد مهماً مقابل جيوش من آخرين متاحين على وسائل التواصل الحديثة، وهذا ينافي ما يدعونا الله عزوجل إليه من التكافل والرحمة دون تكلف فالله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. وكعاقبة لهذا التعقيد أصبح الإنسان يتردد ألف مرة قبل أن يفكر مجرد التفكير في الاستعانة بأخيه! إن هذه الحياة المعقدة تستلزم منا وقفة صادقة مع النفس فلم تجلب للبشرية سوى مظاهر أثرت على نفسياتها وسلوكياتها وقادتها من الأحسن إلى الأسوأ ومن الجميل إلى الدميم وهنا استذكر ذلك الزمان الذي كانت الحياة فيه بسيطة هانئة فكثيرا ما أسمع جملة "يا زين حياة أول " -أي ما أجمل حياة الآباء والأجداد -عندما أجلس مع جيل الستينات والسبعينيات فما الذي يميز ذلك الزمان؟ ولم ضيعناه من أيدينا؟ إن أكثر ما يميز ذلك الزمان وتلك الحقبة من الزمن التي يظل الحنين إليها متوهجاً هي البساطة والبراءة من كل تعقيدات الحياة الحديثة، فعلى الرغم من أن التكنولوجيا الحديثة والوفرة المالية ساهمت وبشكل مؤثر في تحسين ظروف الحياة وتعاملاتها إلا أنها في نفس الوقت عقدتها وشعبتها وشوهت علاقتها الإنسانية وخصوصاً بعد ظهور فيل الرأسمالية الأهوج الذي يسعى وراء النمو والتضخم. الأمر ما زال بأيدينا؛ فنحن قادرون على أن نتخلق بالبساطة ونتحرر من عبودية المجتمع والعيش تحت سطوة من لا يرحم، ونظرة الآخرين الملوثة للحياة الهانئة، ومحاولة كسب رضاهم واستحسانهم، ابدأ بنفسك، ومارس عملية التنظيف، تنظيف القلوب والنفوس والمشاعر والبيئة المحيطة من كل التعقيدات والنتوءات التي تعرقل سير الحياة في أمان واطمئنان. [email protected]