12 سبتمبر 2025
تسجيلرائحة العفن تتصاعد من أم المقابر، أفواه مكممة، صرخات مخنوقة، أبصار شاخصة، ملامح واجلة، عقول مكبلة بأوصاد الخوف، أياد طاهرة محبوسة في زنازين التيه، مستبعدة ومهملة، يدير شؤونها كل متسلق، أحمق، جاهل، يتوارى عليها حراس بلداء، فهي من سيئ إلى أسوأ، يعاقب فيها الذكي على ذكائه وسعة أفقه، ويكافأ فيها الغبي على غبائه وإخفاقه. مناظر الرعب في أم المقابر لا تنتهي، ففي هذا المستنقع العكر، تنقلب الموازين والمفاهيم، فالقوي المسنود، صاحب المركز والنفوذ، إن أتى بخطأ لا يعاقب، بينما يضحى بالضعيف ككبش فداء له، قيل لي ذات مرة إن مقابلة تمت بين الرئيس وأحد الموظفين، الذي كان متميزاً بأعمال ناجحة خارج هذه المقبرة، وكان فرحاً إنه أخيراً استطاع أن يصل إلى الرئيس، ليعرض عليه مقترحات من شأنها تحسين وتيرة العمل، وتغيير صورة أم المقابر المشوهة والعمل بشكل أفضل، وكان مدير مكتب الرئيس حاضراً في المقابلة، فكلف الرئيس الموظف بعد أن أعجب بطرحه، بإعداد الخطط لهذه المقترحات، على أن يوافيه بها في لقاء آخر، وقبل أن تنتهي المقابلة طلب الموظف من الرئيس أن يسمح له بالتقاط صورة تجمعهما معاً، ففرحة الموظف بلقاء رئيسه لا توصف، فمن ذا يستطيع أن يقابل الرئيس كما فعل هو !! فأعطى هاتفه لمدير مكتب الرئيس لالتقاط الصورة، فكانت الصورة القاصمة ! خرج الموظف مبتهجاً، وطيد الأمل، تارة يقرص نفسه، وتارة يفرك عينيه، يناجي أعماقه التي ابتلت بندى الرجاء والأمنيات، فأخيراً جاءت الفرصة التي طال انتظارها، واستطاع أن يصل للرئيس، وأخيراً سوف يحظى بعرض رؤيته في العمل على الرئيس، وسينتشل نفسه وأصدقاءه من رفوف التجاهل وخزائن النسيان، وهو الموظف الذي تم تهميشه وتجميد أوصاله في إدارته، وذلك لما يتمتع به من ذكاء واحترافية في عمله، وهذا أبدا لم يكن مطلوباً ولا محموداً في أم المقابر، ولا يعد تميزاً بمقاييسها البائسة، كان الموظف يتوق دائماً إلى تقديم ما في جعبته من ابداع للارتقاء بالعمل، عله يغير الصورة المأخوذة عن أم المقابر، فهو يريد أن يشعر بالفخر لانتمائه لها، حيث كان الناس يلومونه على تضييع وقته في العمل بها، فهي مقبرة لكل إنسان مجتهد ومخلص، ومتمكن، ولكن الفرحة لم تكتمل، وسرعان ما انقلبت الفرحة إلى نكبة، حين سال به السيل فور مشاركته الصورة على وسائل التواصل ابتهاجاً بلقاء رئيسه، وليثبت لرفقائه أن مقابلة الرئيس لم تعد مستحيلة، وإن الخير قادم، فأصواتهم ستسمع كما حدث معه، ولكن قامت الدنيا ولم تعرف سبيلها للقعود، وصب الغضب على الموظف كما يصب الزيت على النار، دون أن يعرف السبب، أو وجهة النظر في ذلك، فرفض الرئيس مقابلته مرة أخرى، ونصبت له المكائد، وأقصي من كل شيء، وأعيد إلى قبره، ودفن مع مخططاته، ليكون عبرة لغيره! يا لها من نهاية مخيبة، دفن هذا الرجل المفعم بالطاقة والحيوية والعطاء، وخسرت جهوده، وهدرت عقليته الفذة، بينما كان الأولى بالعقاب هو مدير مكتب الرئيس، الذي لم ينبهه إلى ذلك الخطأ الشنيع قبل ان يقترفه، ولم يلفت نظره إلى أن ذلك يعتبر انتهاكاً سافراً في عرفهم، وبحسب مقاييس أم المقابر المزرية !! بينما كان لازماً أن تلتقط الصورة بهاتفه، ثم إرسالها إلى الموظف إن أجيزت ! فراح مستقبل الموظف كبش فداء لذنبٍ يجهله. حقيقة لا أعلم إن كان ذلك هو بالفعل خطأ عظيما يستحق كل ذلك، فمن منا لا يفرح إذا التقط صورة مع شخصية يعتبر أنها مهمة بالنسبة له، فيشاركها مع أصدقائه على منصات التواصل !! إن كنت أيها الرئيس لا ترغب في انتشار صورك، فكان الأولى منذ البداية أن ترفض بكل لطف ! وأن تنزل العقاب بمن يستحقه، إن كنت فعلاً كما تقول دائماً في خطاباتك، تبحث عن المتميزين وتهتم لهم، وتحاول توظيف جهودهم، والاستفادة من خبراتهم، ما كانت تلك نهاية الموظف البريء !! ما أبرعنا في الخطب والتنظير، واعتلاء منبر الخطباء ! الغريب أن رائحة العفن كل يوم في ازدياد، والعاملون يختنقون كمداً وحسرة، فلا من سامع لشكواهم ولا من يشعر بمعاناتهم، ولا من مخلص يخلص أم المقابر من رائحة الموتى الذين يحترقون فداء لها. دمتم بود