13 سبتمبر 2025
تسجيلقال لها: إن الرجل أشد وفاءً وإخلاصاً من المرأة ! فالمرأة عندما تتزوج، قد تبتعد عن صديقاتها لتمنح تركيزها واهتمامها لزوجها وأسرتها، بينما الرجل بعد الزواج يظل مخلصاً و وفياً لصديقاته ولا يبتعد عنهن ! فأجابته: هذا صحيح، لأنه بكل بساطة كلب !! لقد استحق تلك الإجابة، فالكلب أعمى في وفائه، لا يميز بين صاحب فاضل وآخر فاجر، فالوفاء محمود في كل فعل يختص بالخير، ويعين على فعله، وأما أن يكون الإخلاص في المقابح والشرور والأذى فهو مذموم. إن الإخلاص والوفاء في الزواج لا يمكن اختزاله في نمط واحد فقط، بل هو الركيزة الأساسية التي يقوم عليها الزواج المثالي ذو العمر المديد، فالزواج عهد وميثاق غليظ، وربما اسهب هنا، لما لهذه المؤسسة العظيمة من تأثير عميق على الفرد، وانعكاسات هذا التأثير على المجتمع، فمن ضروب الإخلاص في الزواج العناية بشؤون الأسرة والوفاء بحقوقها، وبذل الوقت والجهد في سبيل ذلك، وعدم الاعتماد الكلي على شريك دون الآخر في قضاء حوائجها ورعايتها، والاهتمام والاحترام المتبادل بين الزوجين، وحفظ حقوق الشريك في غيابه قبل حضوره، والوفاء بالعهود بينهما، والحرص على قضاء الأوقات الممتعة سوية، واحترام آلية الحوار في النقاش، وتبادل وجهات النظر بحب ورغبة في البناء لا الهدم، أو إثبات الخطأ على الآخر، وإقامة الحجة عليه، فهو شريك في ذات المشروع لا خصم له، وبالتالي تنعكس آثار الإخلاص والوفاء بين الزوجين على علاقتهما بالأولاد، فأسلوب التربية القائم على التقليد والمحاكاة، يرسخ المبادئ والقيم في نفوس الأطفال من خلال المواقف التي يمرون بها، فيظهرون مكتسباتهم المعرفية والسلوكية في التصدي لها ومعالجتها، عن طريق استدعاء الخزين السلوكي الأخلاقي والمعرفي الذي سجل في الذاكرة من خلال الواعي واللاواعي. بينما البعض يحصر إخلاصه لأسرته وزوجته، في بطاقة ائتمانية، وسائق، ومستخدمين، ورحلات سفر، وهدايا، وبهذا يخدر ضميره، ويستمتع بوقته بمفرده، ويعتقد أنه قد أتم دوره تجاههم، و إذا سألته قال: أنا لم أقصر عليهم في شيء !! وأما على صعيد الصداقات، فيظهر من يبالغ في إخلاصه، فيغض طرفه عن أخطاء صاحبه، بل وقد يساهم في تشجيعه على الاستمرار فيها، بذريعة الوفاء في الصداقة، بينما الصديق الحق الوفي هو من يعين أخاه على فعل المعروف، ويقف بجانبه ليتخلص من شرور نفسه، وهواها الباطل، ناصحاً معيناً له في ذلك، وقد جاء في الحديث « انصر أخاك ظالماً، أو مظلوماً « ظالماً أي تمنعه من ظلم نفسه، وظلم الآخرين، أما وقد يتمسك الأخير بسلوكه، فالأولى الابتعاد عنه، ففي البعد أيضاً نوع من العون له، فيشعر بالنبذ والنفور من تصرفاته فربما يعدل عنها ويقومها. وفي العمل، ففي هذه الأيام التي نعيشها، والتي انقلبت فيها المعايير، وتداس فيها القيم، وشاعت فيها المادية والأنانية وبسطت هيمنتها على النفوس الضعيفة، نلاحظ ان الإخلاص أخذ منحنى آخر، فبات معززاً على فعل النقائص، والاحتفاء بها، لارتباطها بالمصالح الشخصية، والاستمتاع بالمنافع المادية، وأثرة النفس الضيقة، التي تحيا في نطاق التنافس ومناصرة الأقوى، وأصبح الولاء الأعمى مقدماً على العمل، وعلى المبادئ والقيم، وهو مرض يضرب أساسات وأواصر المجتمع، ويتحول ليكون وجهاً من وجوه الأزمة الأخلاقية والسلوكية التي يعيشها الأفراد في علاقاتهم وروابطهم الشخصية و الإنسانية ووشائجهم العملية، فتتناخر وتضعف وترتكس في مستنقعات الفساد. واتقان العمل هو بالصفة التي أدي بها العمل، والإخلاص فيه هو مقدار ما وضعت فيه من روحك وجهدك ووقتك، واهتمامك بأدق تفاصيله ومتابعته حتى بعد الانتهاء منه. أما على مستوى المعتقدات والمبادئ والقيم، فالإخلاص لها والوفاء بإملاءاتها، يسهم في تشكيل الشخصية السوية الثابتة، الراسية في ميناء الأمان والاستقرار النفسي دون أرجحة، فيحميها من التقلبات والتذبذب والشتات، فلا تميل مع أمواج التيارات والاتجاهات السيكولوجية، التي تعصف بالعقل من هنا وهناك، ولكنها تساعد على الركون إلى منهج ثابت في الحياة يحيلها إلى الهدوء والطمأنينة والأمان الروحي. أما الفكرة فإذا ما آمنا بها، ووفرنا الإخلاص في سبيل تحقيقها والعمل عليها بشكل يتسق مع تحقيق أهدافها، ستؤتي أكلها، وتطرح ثمارها. والإخلاص في الكلمة بالصدق فيها فلا تستسهل وتبادر بالقول فيما تجهل، فتحمل وزرها ووزر من صدقها، ولا ترفث في كلامك، ولا تحاول تقديم الوعود مع عدم القدرة على تنفيذها، فتمني الآخرين بها وأنت تعلم أنك لن تقوى على تلبيتها أو الالتزام بها، فاعترافك بعدم القدرة ليس عيباً أو انتقاصاً منك، وهو أهون و أرفق من ترك الآخرين يتشبثون بأمل واهم. وبهذا نستخلص أن الوفاء والإخلاص هما أكثر المواقع حساسية على خارطة المبادئ والقيم، ويشكلان وجهين لعملة واحدة لا ينفكان عن بعضهما البعض، فبهما تنسج الثقة اللازمة لبناء العلاقات الاجتماعية والعملية الناجحة، وبالتالي نسهم كأفراد في غلق الباب أمام منفذ من منافذ الفساد الأخلاقي في المجتمعات.