19 سبتمبر 2025

تسجيل

عمران والكوكب الصغير

31 أغسطس 2016

كنت أجلس مع نفسي حرفياً، أفكر في أشياء كثيرة دون أن أعرف ما هي، جلسة غريبة في مقهى الصيادين كالمعتاد، قطة بنية لفتت انتباهي أخذت أراقبها باهتمام، شعرت أنها تناديني كي ألحق بها. لوهلة ظننت أنها حورية جميلة متنكرة في هيئة قطة، خرجت من المياه للتو، وجسدها يقطر ماء، تبحث عن فارس وسيم، لن يكون أنا بالطبع، لأن زوجتي تقرأ مقالاتي باهتمام. بينما أنا في عالمي الوردي إذ بي أسمع صوتا غريبا كأنه "سسسسسس"، أحدهم ينادي القطة، يا للهول!!، بل هذا طفل وقح يناديني أنا، أردت أن أصفعه، ولكنه كان قصيرا جميلا، أشقر الشعر، بريئا كأنه ملاك، قال بالعربية، لكن بلكنة أجنبية: مرحبا أَمي، بفتح الهمزة، يقصد مرحبا عمي. - من أنت ؟ - الرحالة الصغير ! - هاه، وماذا تريد ؟ بدأ الطفل يحكي لي قصة غريبة، عن وطنه، والذي كان كوكبا صغيرا، يستطيع أن يدور حوله مرتين كل ساعة، وكان يعيش فيه لوحده مع وردته الحمراء المشاكسة، وبين الفترة والأخرى يتعلق عن طريق شباكه السحرية ببعض المذنبات كي يزور الأرض. طبعا جميعكم أدرك أننا نتحدث عن رائعة الكاتب الفرنسي "أنطون دي سانت إيكزوبري" ، والتي أسماها "الأمير الصغير"، وبالتالي هذا الطفل ليس أكثر من نصاب، قرأ كتابا، ويريد أن يستعرض عضلاته الأدبية عليّ !! . إلا أنني واصلت المسرحية، وسألته: وماذا تريد مني ؟ فقال: جئت أبحث عن عمران، تابعت أخباره خلال الأيام الماضية، وحرام أن يبقى في أرضكم، يستحق أن يكون معي هنا، في السماء، في ذلك الكوكب البعيد يستمع لألحان الكون، وترانيم الأرواح الطيبة. قال عبارته الأخيرة، ثم اختفى دون أن أدرك متى أو كيف، لكن مهلا، أين هاتفي، النوت 5، يا للحرامي النصاب، لقد أخذه وهرب، لم أتوقع أبدا أن "الرحالة الصغير" ليس أكثر من "لص صغير". صباح اليوم التالي وبعد وصولي إلى مقر عملي في "جامعة قطر" سمعت طرقا هادئا على الباب، ثم فتح الباب دون استئذان، وكما تتوقعون، كان هو ذاته، "اللص الصغير"، يبتسم ببلاهة وبراءة. وقبل أن أصرخ وضع هاتفي على مكتبي، ثم قال دامع العينين: سامحني يا "أَمي - بفتح الهمزة ويقصد عمي- لم أقصد أخذ الهاتف، لكن أغنية "الصيصان شو حلوين" التي كنت تتابعها على اليوتيوب، لفتت انتباهي فأخذت الهاتف دون وعي. صمت قليلا ثم قال: سأعوضك، سأريك ما لا يمكنك تخيله، وفجأة اختفى المكتب من حولي، رأيت مديري من بعيد وهو يدخل مكتبي الفارغ، أظلمت الدنيا فجأة، ثم أضيئت بضوء فيروزي جميل، ووجدت نفسي على الكوكب الصغير. رأيت في البداية تلك الوردة، المفعمة بالأنوثة والنزق، ثم رأيت "حنظلة"، وكالمعتاد كان يعطيني ظهره، وبجانبه وقف "عمران"، وقريبا منهم كان يطيرن "إيلان" يرفرف بجناحين من نور. قال الرحالة الصغير: هؤلاء أصدقائي، لا أقبل أن يعيش على كوكبي إلا من كان طاهر القلب، أنت استثناء أيها الصحفي، لأنك لن تستقر هنا، هذه مجرد زيارة. وهنا تحدث حنظلة: منذ مدة غادرت الأرض، ذهبت للمريخ، لكن حتى هناك لم أسلم منكم، ضيعتم وطني وطفولتي، وصنعتم مني لاجئا، ثم بدأتم بملاحقتي في كل مكان، حتى الدول العربية والإسلامية لم "تعتقني لوجه الله". قلت بصوت هامس: حنظلة، أنت في قلوبنا. لم يجبني حنظلة، ولم يلتفت إلي، إنما قال الرحالة الصغير: عندما جاءنا "إيلان" قبل أشهر، أدركنا أن الحياة أعقد مما نراه، وهكذا قررنا أن نستضيف "عمران"، فلم تعد الأرض مستقرا له. نظر لي عمران بنفس نظرته الشاردة، أخذ يتحسس جراحه التي لم تلتئم بعد، ثم قال: القنابل التي انهالت على منزلي، لم تدمر الحجارة، أو تقتل البشر، بل قتلت كل ضمير حي، أنت وغيرك، ستشاهدون صورتي، وستقرؤون كلماتي، ستتألمون لوهلة، ربما، ثم ستكملون حياتكم وكأن شيئا لم يحصل، وحدها الإنسانية هي التي ستدفع الثمن، وقريبا ستتحولون إلى مسوخ، وأرواح مشوهة، ولا يشرفني أن أقيم بينكم. خيم الصمت تماما، ولم يعد أحد منا قادراً أو راغباً في الكلام، فقط الوردة أخبرتني بأنها منزعجة، حيث إنها لم تعد تحتمل الطاقة المنبعثة من سكان الكوكب، كانت طاقة إيجابية أكثر مما تحتمله هذه الوردة النزقة، وكذلك أكثر صفاء مما تحتمله كوكب الأرض، فكانت الهجرة هي الحل والملاذ.