12 سبتمبر 2025
تسجيلفي بداية مسيره، تتطور خطواته الأولى نحو الحياة، جاهلاً بما تحمله بطون الأيام من أثقال لا يقوى صبراً على تحملها، فيخطو خطوتين سريعتين كخطى البطريق ثم يقع، ويبدو مسروراً ضاحكاً على ما قام به من إنجاز، فتلمح السعادة تفيض من عينيه، ويطوق الفرح قلبه البريء، والسرور يغري لعابه كقطعة حلوى لامست فمه الصغير، والفخر يغمره نشوة وانتصاراً، بهذه الخطوات الصغيرة التافهة، التي قد لا تساوي شيئاً في عدّاد الإنجازات، فها هو قد حقق أول أحلامه، فعدسة أفكاره قد سلطت الضوء على ذلك الفعل البخس، فرأى في انعكاسه أفعال الأبطال، فترجمه إحساسه سعادة غالية، وصغر في عدسته وقوعه المتكرر، فتعلم أن المجد لا يأتي طيعاً ليناً، فنهض ليعاود الكرة. وترتفع الأيدي تصفق وتهلل لهذا الإنجاز، تحفز وتشجع، فلا يسع ذلك الصغير إلا أن يقوم ليحاول جاهداً أن يزيد من خطواته عله يحصل على مثل هذا الشعور بالثناء مرة أخرى، فطرة في نفس هذا الصغير، تشرق وتأفل وفق استجابة من حوله، مشهد يحاول الأساتذة ومدربو التنمية البشرية أن يغرسوه في تربة التعليم والتدريب. ما تزال الأسئلة تتقافز إلى عقل ذلك الإنسان الصغير، فالحياة بكل عواطفها وعنفوانها وحيويتها وزينتها كأنثى مغرية لعوب تغازل الفكر وتأسر الألباب، تتفجر تلك الأسئلة ثائرة حائرة كحيرة مقلتيه وهما يتقلبان في براح هذا العالم المغري بألوانه البارقة، ماعدا لونيه الأسود والرمادي، اللذين كان يمر عليهما مرور الكرام، غير مدرك بأنهما سيسودان فضاء كونه الرحب في يوم من الأيام، وينهمران كالمطر السحيق الذي يجرف في طريقه جميع الأطياف المزهرة، وما تبرح ذاكرته ترصد وتدون في اهتمام كل ما يقال ويحدث أمامه، تخزن في صمت مشاهد وحكايات، ستصنع لاحقاً أطراً ونصوصاً مقدسة أو مواثيق إلهية لشخصيته، فلا يسعفه في هذا الوقت سوى تقليد ما يحاكيه، حتى يشعر بتكيفه مع هذا العالم الغريب فيظهر أثر التقليد في أفعاله وسلوكه وحتى مشاعره، فحاله كحال الأرض الخصبة الندية تتلهف لاحتضان أنواع البذور بمذاقاتها ونكهاتها وأشكالها المختلفة، الحلوة والمرة، وروائحها الزكية والنتنة، وفوائدها الناجعة والخبيثة، فهي تتشرب الآن ما يريد صاحبها أن يجنيه منها لاحقاً، فتراه يحاكي من حوله علّه ينال رضاهم واستحسانهم، فيحصل على سعادة تتمطى داخل نفسه وتتجلى مهللة على محياه، فيشعر بأنه مرحب به، وأنه بذلك تخطى أسوار الغربة التي يشعر بها بينهم. وهو في ذلك ضعيف الحال، قانع بما يقدم له، فلم يكن يستوعب معنى الاحتجاج والرفض والجدال، فلم تعلمه الحياة بعد كيف يكون متطلباً نهماً لكل نعمها ومتاعها ومتعتها، فكان تابعاً مطيعاً، قد لانت قناته، حتى في أفكاره التي كانت تقتفي آثار غيره، وتركع خاشعة مستسلمة، تقدم فروض الولاء والطاعة والتسليم، أمام كل معتقد وقناعة، ولا يبخل الرسامون والنحاتون البارعون في نقش ونحت وتشكيل ذلك اللب الطيع الهين، فيتبارى الأهل والأصدقاء والجيران والمدرسة والمجتمع، كل يجاهد بجسارة في غزل نسيج أفكاره، بشتى أنواع المذاهب المزركشة، والمصدقات المطرزة، والاعتقادات المزخرفة، ويتسابق السقاة في سقي لبه بأنواع المدام، فيعاقر كؤوسها ومجالسها، فيطول به الأمد وهو على هذه الحال ثمل بما قال الندماء الأولون. ويتوالى الزمن، وهو لا يزال سكران يعربد بأفكاره البالية، حتى إذا ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، تكشفت له خيوط المؤامرة التي حيكت ضده دون أن يشعر، وأنه كان ابناً لخطيئة لم يقترفها، رافقته على مدى ليس بقليل من عمره، فتبدأ رحلة الكفاح في محاولة لإصلاح خرق الأفكار الرثة، والآراء المهلهلة، وعلاج صديد الفكر الذي انتجته دمامل العقل المتقيحة، ولا نعلم إن كانت جهوده ستكلل بالنجاح، أم أن صراع المجادلة بين الأفكار المتأصلة والحديثة سوف يطول حتى يقول كلمته. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه من يحمي العقول الرطبة من أسلاك المؤامرة الشائكة؟ ومن يوقف استمرار تلك الخطيئة الآثمة؟