10 سبتمبر 2025

تسجيل

مروحة الحداثة

30 نوفمبر 2016

ترتبط بهجة المعرفة عندي بالراحل تركي الربيعو، الذي كانت شفوياته الشائقة تماثل المكتوب في مقالاته، لم تكن "سوالف ثقافية" بقدر ما كانت ترجمة للمكتوب الذي اشتغل عليه قراءة وكتابة، فيفيض به على محدّثيه، مازجًا إياه بطرائف مجتمعنا، كان يكلّمني عن ريجيس دوبريه، وتشبيهه الجميل للحداثة بشفرات المروحة:"الحزب والمدرسة والجريدة"، فأقف مندهشين أمام جمال التعبير وجدّته.كانت المراوح جديدة، لم يتجاوز عمرها عشرين سنة، حين جاءت الكهرباء، واشترينا أجهزة التلفزيون والمراوح، والثلّاجات فيما بعد، كان أخي الأصغر بدأ يهتمّ بالخطّ، فكتب على المروحة الصينية ثلاث كلمات على شفراتها "مروحة - تات - لموسى" فنقرأ العبارة حين تدور المروحة بهدوء، نقرأ بصوتٍ عالٍ، حداثتنا الجديدة أيضًا، والحقّ أنها كانت مروحةً جيدة، قاومت انقطاع الكهرباء المفاجئ، ومجيئها المفاجئ سنواتٍ لا أدري كم عددها، ولا أدري إن كانت لا تزال تدور فوق رأس العائلة الآن.لا أتخيّل مروحة بشفرتين، المروحة كالقدر العربي، الذي لا يركب إلا على ثلاث، ولهذا كلما تكلم صديقي عبد الجبار الهايس، وقال يعود الأمر إلى سببين اثنين، صرخت فيه "ابحث عن سبب ثالث"، ولهذا ظلّت مروحتنا ومروحة ريجيس دوبريه، تشيران إلى حرارة الجوّ والأفكار، وبهجة المعرفة التي عرفناها في أستاذنا الوسيم الذي غادر الحياة سريعًا.بعد سنوات زهد الناس في المراوح واشتروا المكيّفات، وارتبطت عندي بما بعد الحداثة، فنظام التبريد المعقّد الذي يوزّع البرد والسلام على مناطق بعينها، أفضى إلى أعطال كثيرة في الأجهزة التي لم تحتمل خرافة العولمة الذاهبة بالضعفاء إلى أيّام ما قبل الكهرباء.عندما تتوقف الحروب - الحرب سابقًا - سننسى المروحة والمكيفات في أغلب الظنّ، ونعود إلى "المهفّة" ونقرأ سيرة بني هلال.