16 سبتمبر 2025

تسجيل

أن تكون قطرياً في أيامنا

30 أغسطس 2021

ظلّت قطر لمدة تزيد عن العقد الكامل، رقمًا صعبًا في مستويات الرخاء الاجتماعي ليس على المستوى الإقليمي فحسب، بل على المستوى العالمي، إذ استطاعت تحقيق أرقامٍ عاليةٍ على مستوى دخل الفرد، وتوسّعت بشكل ملموس على صعيد مجانية الصحة والتعليم والكهرباء والماء. ومن جهة أخرى، نجد أن الاسم الذي ارتبط بها في مخيال البعيد والقريب هو كعبة المضيوم، إذ لا يغفل أحد الرؤية التي توازت مع مشروع النهضة الذي أسسه صاحب السمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة، وهي رؤية تنحاز بقضها وقضيضها إلى خيارات الشعوب وضمير المواطن العربي في الشارع، هذه حقائق رئيسية وإن تنازع البعض حول تفاصيلها. ونظرًا إلى مدى النجاح الذي رسّخ من قواعد الدولة، وحجم الالتحام الذي قارب بين مختلف فئات الشعب، والقدرة الوطنية التي أثبتت جدارتها في أحلك ظروف البلاد وأصعبها، لا بد إذن من القول: إنه لا يمكن أن نجزع أمام التحديّات، مهما تنوعت أشكالها وتفاوتت نِسَبها. أيّما تجربة سياسيّةٍ في التاريخ إلا وامتلأت بالنواقص، ويكفي أن يمتثل في أذهان أصحابها ضرورة التحسين المستمر لبنودها وسير أعمالها قياسًا على مطالب الإنسان، وظروف الزمان والمكان، وهذه طبيعة بشرية نجد شواهدها في تواريخ الأمم الحاضرة، حتى ليصبح النقص خصيصة ثابتة في دَمِها، إلى أن تستجيب بنفسها لتدرّجات الإحياء والإصلاح والتغيير الحتميّة. وإنه لتغلب على مجتمعنا القطري صفة التراحم بين شتّى شرائحه، قد تخترمه بعض الأحيان نوازع الاختلافات الطبيعية، ولكن تسود فيه القيم المشتركة والأعراف المتبادلة، والصلات القائمة على مبادئ الثقة والتبادل، التي تتفق وتختلف، وتعظم وتخفت، شأن كل مجتمع. ومن أهم المنجزات التي نعيشها هذه اللحظة هي هذا السلم المدني الذي ننعم في ظلاله، مما يجعله أجلّ المقاصد التي يجب الالتفاف حولها، باعتبارها أرضية مُلزِمة ننطلق منها تجاه مختلف القضايا والشؤون. كما ينبغي الوعي دائمًا بالتمايز بين الوسائل والمقاصد، وإن الخلط بينهما، وإن اتّخذ صورًا عفويّة أو انفعاليّةً من شأنه أن يفرط بهما جميعًا. وعند هذه اللحظة من التيقّظ، نصل إلى نتيجةٍ مفادها أن مكتسباتنا التاريخية هي محل الإجماع المطلق، بوصفها الوعاء الذي يضم مصالحنا وقيمنا، رغم تباين بعض التصورات والمبادئ. لست أحاول التنظير في هكذا مقالةٍ تدفعها لحظة أملٍ وترقّب، إنّما لا بد في هكذا موقف من التذكير بالمسلّمات. وأن التاريخ -السياسي والثقافي والتشريعي- إنما يحكمه منطق التدرّج والتراكم، والنظر إلى أي تحوّل ينبغي أن يتجه إلى الداخل مراعيًا معطيات واقع الاجتماع السياسي وتركيباته، وإلى الخارج مستفيدًا من تجارب الدول الأخرى. إن من يستقرئ أحداث الأمم بإمعان أو حتّى يجلي بصرَهُ عليها، غالبًا سيخرج بأفكار معيّنةٍ من أهمها، أن ليالي الشدة تنتج القوة، وأن أيام الرخاء تورّث الضعف، بل إن الأفكار البشرية الكبرى إنّما تولّدت بفعل اشتباك الإنسان مع الأزمات، لذا فهي بوّابة إلى السمو والاستقرار، إذا تم استغلالها بشكل جيّد. ثمة الكثير من التفاصيل التي استهلكتها الألسن، وكثير من التعقّل الذي أُهمل، حتى يبدو من الواجب عند هذا المقام أن يولّى أهمية مُلحّة، لا تحتمل التأخير -بل قد يكون للتأخير عواقب غير متوقعة-، وهو -بوجهٍ آخرٍ- أمانةٌ يقع حِمْلُها على كاهل الجميع، على الدولة والمجتمع، والمسؤول والمواطن، والناطق والسامع، والفاعل والمتلقّي. بالإمكان القول، إن ما شهدناه في الحقيقة هو أمرٌ تتنازعه العفوية ويشدّه التعقيد، ولهذا السبب فإن خارطة الطريق المترتبة عليه، هي ذات أولويّة راهنة ومستقبلية، والوعي بها، وعيٌ بالمدى الزمني الذي تقتضيه، وبحجم التنازلات الذي تتطلبه. لقد ولّى زمن القراءات الأحادية، حيث لم يعد باستطاعتنا أن نعالج ظاهرة ما، من منظورٍ واحد فقط؛ فكل ظاهرة لو تفحّصناها جيّدًا، نجد فيها أبعادًا متداخلة، ونقع فيها على عوامل من داخلها، وعوامل من خارجها. من هذا المنطلق، فإن عمليّة سن التشريعات وصناعة القوانين، دائمًا ما تتأثّر بعناصر محليّة، وعناصر إقليميّة، وأخرى عالميّة، فيكون من الصعب عزلها في نطاق واحد، وتفكيكها على هذا النحو. لذا فمن أساسيات التعاطي مع الظواهر المركّبة هو النظر إليها من جوانب عديدة، واستخدام أدواتٍ مركّبةٍ من أجل احتوائها. لا شك أننا نعيش مرحلة، لو علمها السابقون لغبطونا عليها، ولو عرفها اللاحقون، لشدّوا من أزرنا، وطالبونا التمسك بها بشتّى الطرق. وإننا في هذا المستوى من الوئام والتنوّع، ملزومون بالدفاع عن استحقاقاتنا المدنيّة، والحفاظ على شروطها بما أوتينا من وعي وإدراك ولُحمة. وهذا ينبغي أن يتوازى مع الدفع نحو سد ثغراتها، وتوسيع نطاقها، وتمتين روابطها. ولقد رأينا كيف أن الانفعال الجدلي الذي تخلل منصات التواصل الافتراضي قد ارتد سلبيًّا على أذهان الكثير ونفسيّاتهم، فحجب عن أعينهم ما كان حقيقًا عليهم أن يروه، واستنزف طاقاتهم في مدوارات نافية ومؤكدة، وصل فيها مستوى النقاش إلى درجاتٍ مؤلمة ومتدنيّة من المناكفة، في وقتٍ كنا أشد ما نحتاج إليه هو الحوار البنّاء وفق تقاليد التعايش والمساواة، أو الخطاب الذي يضم شتات الأمر، ويلمُّ شعث المسألة. مع العلم أنه انفعال لم يخلُ من حق، ولا يُلام من وجد نفسه منخرطًا فيه إلا لكونه وقع في الإفراط والتجاوز، وهذا لا ريب أنه فاقم من ردود الفعل العشوائية بدلا من تقريبها، وجعل منها مشكلة بحد ذاتها. إننا بحاجة أصيلة إلى الحوار، وبحاجة كبرى إلى تفعيل منصّات الحوار الوطني-الوطني، على أرض الواقع، وربما استشعر الجميع في الأيام القليلة الماضية ضرورة ترشيد طاقات التعبير الشبابي، إذ قد تؤذن حالات الصمت الطويل بما هو أنكأ من مجرد الجدل، يستلزم على إثرها البحث عن مهدّئات قد لا تتوفر حينها. ختامًا، التزامنا تجاه الدولة وعدالتها والمجتمع واستحقاقاته عهدٌ لا يمكن أن يُمَسّ، والواجب هو الحفاظ عليه من كل شارد ووارد يشتهي تطويع الموقف لصالحه.