10 سبتمبر 2025

تسجيل

حـقـيـقـة الإبـداع

30 أغسطس 2018

إنّ للإبداع سيكولوجيا معينة، يحظى بها البعض، ويفتقر إليها الكثير من البشر، وهيَ تحديداً تكمن في قدرة المُبدع، حينما يصل إلى عمق فكرته، لتتجلى هذه السيكولوجيا في طرحه، سواءً كان ذلك في الأدب أو في مجالات الحياة الأخرى، من هندسة وعمارة وطب وكيمياء وفيزياء وما إلى ذلك من علوم واختراعات البشر الكثيرة، والتي تندرج تحت هذه السمة العميقة جداً، ولا تتأتى للكل، بل هي فطرةٌ قد حباها اللهُ بعض البشر. وبما أنني أسبحُ (على قدّي) في بحر الأدب، وبحر الأدب غزير جداً، فلن أخوضَ في مجالات الحياة الأخرى كَوني لا أعلمُ عنها شيئاً، فهي تخصُّ مبدعيها ومريديها، أما أنا، فأنا ابن الأدب. وهذه السيكولوجيا غالبا تخضعُ للتوتر النفسي عالي المستوى، وهذا التوترُ ينتج عنه مزاجية معينة للمُبدع، وأحيانا يكونُ ذلك التوتر ضرورةً للإنتاج الإبداعي، فنجدُ المُبدعَ أحياناً كثيرةً مُستسلماً لهذه المزاجية، فلا حول له ولا قوة على طرد هذه الطقوس، فيكون تحت وطأتها حتى تزول. وكي نَلجَ في صلب المقالة هذه، أريد أنْ أُشيرَ لبعض مواطن هذه السيكولوجيا، والتي تحدثُ غالبا، في لحظة نتاج الفكرة ومن ثمَ الطرح، سواء كانت رواية أو قصة أو قصيدة أو حتى مقالة، ألا وهي: الانفصالُ الكلي عن العالم الخارجي، تقلبُ المزاج، الهدوء المقيت، الاكتفاء الذاتي في كل شيء، الحساسية النفسية المفرطة تجاه الآخرين، وفي آخر المطاف تكون العُزلة. ومن ثمَ يأتي النشاطُ الذهني والذي يُوَلد ما بالخاطر، فتُولد الرواية أو القصة أو القصيدة أو حتى المقالة. وفي النشاط الذهني نفسه، يتقاطع الإدراك واللا إدراك، يحددُ الصورَ، يميزُ التعابيرَ، يُثبت خيالاً، يُسقط خيالاً آخرَ، يَصفُ هذا، ويَتوهُ مع هذا، يُقارن، يُبعد، يُقرب، يُلصقُ ذاك. وهذا كله يحدثُ في العالم المحسوس فقط، خامات متداخلة ومتقاطعة، ويحاول المبدع في ذاته، أنْ يربطَ هذا ويمزقَ هذا ويُتلفَ هذا ويَحضُنَ تلك، كي يصلَ إلى ذروة الطرح من خلال عمق الفكرة، فينتجُ إبداعه، قصيدة أو قصة، مقالة أو رواية. فنجد البعض يغرقُ في صوت الماضي، فلا يستطيع التجديد، ونجدُ البعض قد تَعلق بالرمزية المحضة، فلا يستطيع الرجوع لواقعه، ونجد البعض فعلاً مبدعاً، فهو صوت عصره بين الرمزية المقبولة، والواقعية المُطَعَمة بالخيال المُرضي لنفس القارئ، وهذا هو المطلوب من وجهة نظري. لذلك نجدُ أنّ بعض النصوص حية، وبها روح لا تموت، ولا تمرُ مرور الكرام لدى القراء، هي نصوص أتت من خلال مشاعرَ صادقة، لواقع حقيقي، من شخصٍ رشيق وأنيق فيما يتناوله من طرح، ويُدركُ ما يُريد أن يقوله سواء للخاصة من الناس أم للعامة. فهي أي (تلك النصوص) خلاصةُ كل ما يجول بالخاطر من مشاعرَ وعواطفَ، تَقَولبت كتجربة حياتية للمُبدع، وهُنا لا يفوتني حقيقة أن أُشيرَ إلى: أنّ الروايةَ والقصةَ تحتاجان إلى تجربة حياتية، أكثرَ من غيرهما من الفنون الأخرى، فهما أي (الرّواية والقصّة) نتاجُ صراع نفسي، أو توافق نفسي، لا يحصلُ لمن هم جُددٌ على هذه الحياة وعلى هذه التجربة بالتحديد، بمعنى آخر: أنّ الروايةَ والقصةَ تحتاجان إلى نضوج واقعي كيفاً وكماً، لا لغةً وأسلوباً فقط (وشويّة حشو)، لا.. فهذا الأمر مرفوض تمام، وهذا رأيي حتى في الشعر، إلا أنّ الشعرَ قد يُصْقَلُ بكثرة القراءة والاختلاط مع النجباء، وقد يكون هناك بُعْداً آخرَ، البعض يؤمن به، ألا وهو أنّ الجنَ أحياناً يساعدون بني البشر في ضخ هذه المشاعر في نفوسهم، ودليلي: أنّ كل حديث الجن .. شِعر. وهُنا وكي لا يفوتني شيء، فلا بد من ذكر مسألة الإلهام، فعندما تتوفرُ كلّ المعطيات النفسية للمُبدع الحقيقي، يأتي دور الإلهام، فيتحولُ ذهن المُبدع إلى رادار يلتقط الشاردة، وكلما كانت الشاردةُ واضحةً جداً في ذهن المبدع، كان ذلك المُبدع أقرب إلى الخوض في طرحها في القالب المُعتاد عليه أو الذي يختاره لطرحه، فإن كان قاصاً فهي ستتحول إلى قصة، وإن كان شاعراً، فسيحولها إلى قصيدة، وإن كان كاتباً لفن المقالة، فستكون مقالة، وكذلك الروائي يجري عليه ما يجري لأهل الفنون الأخرى. فالشاردة هي شرارةُ الصدمة، أو النكتة، أو العاطفة، كما يقال، فيَتوقدُ المبدع، فتكون المادة الناجحة بين يدي القارئ، وهكذا دواليك. يقول الدكتور علي الوردي في كتاب (أسطورة الأدب الرفيع)، وتحديداً في صفحة 68، يقول بما معناه: إنه كان مؤمناً بفكرة أن طلاب الأدب، بإمكانهم أن يصبحوا أدباء، إذا اجتهدوا وثابروا وأتقنوا القواعد والفنون اللغوية، ولكنه ثبت عكس ما كان يؤمن به، فقد ثبت أن أحد أهم شروط الأدب هي (أن يمتلك الطالب الموهبة الخاصة بالموضوع الذي يسعى إليه)، فالذي لا يملك الموهبة الأدبية، لا يستطيع أن يكون أديباً، حتى ولو حفظ علوم اللغة كلها من أولها إلى آخرها. ليردف قائلاً: ولعل هذا من أسباب الرقاعة الغالبة على بعض أدبائنا، أنهم طلبوا الأدب وأصرّوا عليه، دون أن تكون لهم موهبة تمكنهم منه، وربما كانت مواهبهم تخوّلهم أن يكونوا نجّارين أو خيّاطين، بدلاً من أن يكونوا أدباء. وأنا في حقيقة الأمر أشاطره الرأي وبقوة، وذلك أنني وقفت على حالات كثيرة في شتى فنون الأدب، ووجدت أن كلامه عين الصواب، فهل بقي بعد تعليقه هذا من معارض؟.. لا أعتقد. روائي قطري