13 سبتمبر 2025
تسجيلما كان مني في آخر لقاء جمعني بكم من حديث عن الماضي وما يحمله في جعبته من ذكريات جميلة تُنعش النفوس المُتعبة والمُرهقة وتُخلصها من تعاستها؛ لتعشق حياتها بكل ما فيها من تفاصيل قد تبدو مُملة وتحتاج لكل من يستطيع تحريرها من ذاك القالب البشع الذي يحتجزها ويُقيد حركتها فتتقدم ومن بعد بأفضل ما لديها؛ لتدرك الجوانب التي لم يسبق لها وأن أدركتها من قبل، وما تبع كل ذلك من حديث عن ذكريات خاصة بي أسعدتني كثيراً حين قُدِرَ لي بأن أستعيدها من جديد بفضل (بطاقة صغيرة جداً خلفت ذاك الأثر الكبير في نفسي بعد أن لفظها كتاب قديم كان قد ابتلعها منذ أعوام بعد أن دسستها في فمه)،هو ذاك الحديث الذي لم يكن ليتوقف في حينه أبداً، وكل ما في الأمر أنه قد أُجبر على ذلك حين تأثر قلمي وكاد أن ينجرف مع تلك الذكريات بعيداً؛ ليتجاوز بفعلته تلك حدود المساحة المسموح لي بها وبدت غير كافية لمزيد من الكلام، فقررت تجميد حركته (حينها) بالتوقف عن الكتابة أو بالأحرى عن التفريغ الذي نتقاسم نتائجه معاً، فأنا أفرغ ما في جعبتي بكل حب، وأنت أيها المتلقي العزيز تتلقى ذلك بصدر رحب، لتخرج الفائدة مني وتدخل عليك ضيفة تحمل معها الكثير مما يمكن بأن يجعلك بوضع أفضل أتطلع إليه دائماً، وأشعر بالراحة حين أدرك بأنك قد بلغته بفضلها كلماتي حتى وإن كان ذلك على دفعات بسيطة جداً يكفي بأن تكون؛ كي يكون لي ما أريده من راحة تمتد إلي متى كانت لك. إن هذه الكلمات التي ذكرتها آنفاً وتلك التي طلت من مقالي الأخير قد خرجت من قلبي؛ باحثة عن قلوب تُرحب بها وتستوعبها، فهي لا تُكتب من فراغ، ولا تستند إلى عقلية فارغة لا تدرك ما تقوله، ولكنها تُكتب كنتيجة حتمية لواقع يعاصرني ويحاصرني ويُجبرني على التفكير والتأثر به، ومن ثم تقرير ما يمكنني فعله بالنتيجة التي أخرج بها عادة، وتتطلب مني صياغتها بالشكل الذي يعالج الوضع كما يجب، والوضع الذي يشغلني حالياً هو ذاك الذي سلطت الضوء عليه في لقائنا الأخير، ووعدت بأن أتابعه هذه المرة؛ لأنه وعلى الرغم من بساطته إلا أنه يُعد ثقيلاً بالنسبة لمن يحمله على كتفه ويتحمله على مضض، وما أدركه تماماً أن هذه اللحظة لن تمر بسلام فهناك من سيتقدم بهذا السؤال: وهل يُعقل بأن تكون الذكريات الجميلة ثقيلة على صاحبها؛ لأتبنى فكرة تسليط الضوء عليها؟ ولأن السلام هو ما أبحث عنه على الدوام فلاشك بأن سأجيب بالتالي: بالطبع الذكريات الجميلة ليست ثقيلة على صاحبها بل وعلى العكس تماماً فهي تُنعش الروح وتسمح لها بالتحليق بعيداً نحو كل ما يمدها بالفرح والسعادة، ولكن تجاهلها وتجاوز فوائدها؛ للتركيز على الحاضر الذي ننشغل به دون توقف هو ما يُعد ثقيلاً، ويستحق مني توجيه مصباحي إليه وتسليط الضوء عليه، فالمشكلة تكمن في كل من يحسب أن الماضي لا يحمل سواها الذكريات الأليمة، التي لا تمده إلا بالحزن والأسى؛ لذا يفر بعيداً عنها، ولا يسمح لنفسه بالتفكير بها، أو فتح باب قلبه لها؛ كي تدخل ضيفة عليه وتُجدد ما كان بينهما من قبل، وكل ذلك هو ما يُقبل عليه ويقبل به؛ لاعتقاده بأنه الصواب، الذي سينسلخ منه الصواب، ونصيحتي لك يا عزيزي المتلقي هي: أن تسمح للماضي بأن يُداعبك بذكرياته، التي تبحث عن فرصة؛ كي تطل عليك، وهو ما لن يكون لها إلا إن تفرغت لنفسك قليلاً، وحررتها من العمل، الذي لن يعود عليك بفائدة تُذكر متى بقيت على فراشك وحيداً، ورحل عنك من يحبك، وكنت تعني له الكثير، غير أنك لم تسمح له بالتقرب أكثر، بل وعلى العكس تماماً سمحت لحاضرك وكل ما فيه من أعمال بأن يمسح وجوده من الوجود، ونسيت كل ما كان يجمعك به من ذكريات شهدت عليها طاولة واحدة، كانت قد جمعتكما؛ لتناول وجبة (ما)، أو للدراسة، أو لأي سبب يمكن بأن يسمح بذلك، غير أنه لم يعد يملك الجرأة التي تُعينه على مواصلة ما قد كان منه من قبل، والفضل كله لإخلاصك لحاضر له الحق في أن يكون، ولكنه لا يملك الحق أبداً في أن تكون له كل الوقت،فهناك لحظات تحمل لك الكثير غير أنها لا ولن تُطالبك إلا بالقليل كالهروب معها بعيداً عن حاضرك؛ كي تعيش تفاصيل تجربة ماضية سبق لك وأن نجحت فيها ويمكن بأن يمتد ذاك الأثر الجميل منها إليك، فتخطفه إلى حاضرك الذي سينتعش بقدر ما قد كان لك منها؛ لتتمكن ومن بعد من العودة لتلك الأمور التي وقفت أمامها عاجزاً عن العمل لأي سبب تدركه أكثر من غيرك. أيها الماضي صباح الخير حين تُصبح وتُمسي وأنت كما أنت فلاشك بأن حياتك لن تسمح لك بالتفكير إلا بالحاضر، الذي سيتحول لغول لن تُغذيه سواها تضحياتك، أي تلك التي ستتقدم بها بين الحين والآخر على أمل أن يكتفي ذاك الغول منها ومنك، غير أنه ما لن يفعل ولن يسمح لك بالتقدم بقدر ما تريد حتى تُقرر ذلك فعلاً، وتُسلم نفسك للذكريات الجميلة، التي ستُقبل عليك متى قلتها دون تردد (أيها الماضي صباح الخير)، وإنها لدعوة مني لتفعل ذلك، وتحصد ما تحب كما تحب، وحتى يكون لك نسأل الله التوفيق للجميع (اللهم آمين). ومن جديد راسلوني بالجديد: [email protected]