11 سبتمبر 2025

تسجيل

يقلب الله الليل والنهار إِن في ذلك لعبرة

30 يونيو 2024

يعمد القرآن دائما إلى إيقاظ الحس الغافل، وتنبيه النفس الشاردة عبر وسائل إيضاحية مقروءة ومعاشة (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) إنها عبرة التأمل في هذا النظام الذي لا يختل ولا يفتر! تأمل يوقظ في القلب الحساسية ويدفعه دفعا إلى تدبر هذا الناموس الكوني ليتزود من تلك العظات إلى يوم آخر هناك حيث الحقيقة لا المثال (وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ). اليوم ونحن نعيش حرارة تلك الشمس ونختبئ منها عبر المكيفات التي ألفناها - والتي هي من نعيم الله علينا - لكن كيف أنستنا الرفاهية مواطن العظة والعبرة المرادة! يبدو أن القلب البشري صدئ وهمد، فلم يعد يخفق لها، والأنس بالموجود العارض أنسانا ثمرة التفكر في الصيف وواجب التعامل معه، وكم ذا نفقد من حياتنا حين نمر غافلين بهذه الظواهر. ها هو القرآن يجدد حِسَّنَا الخامد، ويوقظ حواسنا الملول. ويلمس قلبنا البارد. ويثير وجداننا الكليل؛ لنرتاد هذا الكون دائماً كما ارتدناه أول مرة. نقف أمام كل ظاهرة نتأملها، ونسألها عما وراءها من سر دفين، ومن سحر مكنون. ونرقب يد الله تفعل فعلها في كل شيء من حولنا، ونتدبر حكمته في صنعته، ونعتبر بآياته المبثوثة في تضاعيف الوجود. إن الصيف اليوم هو الخطيب النحرير والواعظ الأريب لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ. رأى عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قومًا في جنازة قد هربوا من حَر الشمس إلى الظل، وتوقَّوا الغبار، فأبكاه هذا المنظر، وحال الإنسان يألف النعيم والبهجة، حتى إذا وُسِّد قبره فارقهما إلى التراب والوحشة، فأنشد قائلا: مَنْ كانَ حِينَ تُصيبُ الشمسُ جبهتَه*** أو الغبارُ يخافُ الشَّيْـنَ والشَعَثـا ويألفُ الظـــلَّ كي تبقَى بشاشتُه *** فسوفَ يسكنُ يومـًا راغمًا جَدَثًا في ظـِـــلِّ مُقْفِرَةٍ غبراءَ مُظْلِمَةٍ *** يُطيلُ تحت الثَّرى في غمها اللُّبُثَـا تجهَّـزِي بجَهَــازٍ تبلُغيـن بــه *** يا نفسُ قبْلَ الرَّدَى لم تُخْلَقِي عَبَثَـا هكذا هو المسلم المتنبه لآيات الله التي تأتيه تباعا، إنه يتفاعل معها وهو مدرك أنها رسالة لابد من قراءتها والوقف عندها، فمصدر شدة الحر عنده معلوم: نفس ينبيك أن الآخرة أقرب من حبل الوريد فلا تغفل قال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، اشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ! أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ». هكذا يوقظنا القرآن المرة بعد المرة، ويوجه حِسَّنا وروحنا إلى شتى مشاهد الوجود الباهرة، كي لا نمر عليها غافلين مغمضي الأعين، فنخرج من رحلة الحياة على ظهر هذه الأرض برصيد قليل أو هزيل.