15 سبتمبر 2025

تسجيل

لكن سيد قومه المتغابي

18 أغسطس 2024

لأبي تمام بيت خالد صار حديث العرب في منتدياتهم ومساجلاتهم، يقول فيه: لَيسَ الغَبِيُّ بِسَيِّدٍ في قَومِهِ لَكِنَّ سَيِّدَ قَومِهِ المُتَغابي قَد ذَلَّ شَيطانُ النِّفاقِ وَأَخفَتَت بيضُ السُيوفِ زَئيرَ أُسدِ الغابِ وقد نسج كثير من الشعراء هذا المعنى في قصائد باقية، لأهميته وواقعيته: فأحدهم يقول: نَزْرُ الْكَلامِ مِنْ الْحَيَاءِ تَخَالُهُ ** صَمْتًا وَلَيْسَ بِجِسْمِهِ سَقَـمُ وغيره يقول: كَرِيمٌ يَغُضُّ الطَّرَفَ دُونَ خِبَائِهِ ** وَيَدْنُو وَأَطْرَافُ الرِّمَاحِ دَوَانِـي وكُثَيِّرٌ يظهر بعض آثار غياب خلق التغافل فيقول: وَمَنْ لَمْ يُغْمِضْ عَيْنَهُ عَنْ صَدِيقِهِ ** وَعَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ يَمُتْ وَهْوَ عَاتِبُ وَمَنْ يَتَطَلّـَبْ جَاهِدًا كُلَّ عَثْرَةٍ ** يَجِدْهَا وَلا يَسْلَمْ لَهُ الدَّهْرَ صَاحِبُ وفي مَنَاقِبِ الإِمَامِ أحمدَ يقول عُثْمَانَ بن زَائِدَةَ: «الْعَافِيَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي التَّغَافُلِ». فحدَّثتُ به أحمد بن حنبل فقال: «العافيةُ عشرةُ أجزاءٍ كُلُّهَا في التَّغَافُلِ». إن السكوت عن عيوبِ النَّاسِ من أخلاقِ الكبارِ، وهو أعلى درجات التغافل ففيه حفظ النفس من النقائص، وحفظ للمجتمع من شيوع الفساد واستمرائه بين الناس، وقد قيل: إذا أنت عِبْتَ النَّاس عابوا وأكثروا ** عليك وأبدوا منك ما كان يُسْتَرُ فإن عِبْتَ قومًا بالذي ليس فيهمُ ** فذلك عنــدَ الله والنّـــَاسِ أكبرُ وإن عِبْتَ قومًا بالذي فيك مثله ** فكيف يَعِيب العُورَ من هو أعورُ ومن تتبع تاريخ الأمم يجد أنه لا يسود أحد إلا وخلق التغافل بارز ظاهر جلي، هذا مثلا صلاح الدين يصفه ابن الأثير فيقول: «وكان - رحمه الله - حليماً حَسَنَ الأخلاقِ، ومتواضعاً، صبوراً على ما يَكْرَهُ، كثيرَ التَّغافُلِ عن ذُنُوبِ أصحابِهِ، يَسمعُ من أحدِهم ما يَكْرَهُ، ولا يُعلِمُهُ بذلك، ولا يَتَغَيَّرُ عليه». وتلك شارات السيادة وأخلاق الكبار، وهي من حسن إسلام العبد كما قال صلى الله عليه وسلم: «مِن حُسْنِ إسلامِ المرءِ تَرْكُه مَا لا يَعنِيهِ». أما المدقق أو المتتبع عورات الناس فشأنه خطير، وهو مورد المهالك لا محالة، يكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من تَتَبَّعَ عورةَ أخيه تَتَبَّعَ اللهُ عورَتَهُ، ومن تَتَبَّعَ اللهُ عورَتَه يَفضَحْهُ ولو في جَوفِ بَيتِهِ». هذا الوعيد مستحق لعدة أسباب منها: أن تتبع عورات الناس لا يقع إلا من أراذل الخلق أشباه الرجال. شرُّ الورى بمساوي النَّاسِ مُشْتَغلٌ ** مثلُ الذُّبابِ يُراعِي موضعَ العللِ لله در الإمام مالك بن أنسٍ - رحمه الله - حين يقولُ: أدركتُ بهذه البلدة - يعني المدينة - أقواماً لم تكن لهم عُيوبٌ، فعابوا الناسَ؛ فصارتْ لهم عُيوبٌ. وأدركت بها أقواماً لهم عُيوبٌ، فسكتوا عن عُيوبِ النَّاسِ؛ فنُسيتْ عُيوبُهم».