10 سبتمبر 2025
تسجيلحوار دائر بين بنوة ملتاعة وأبوة غاشمة في خمس آيات مشتملة على إحدى وخمسين كلمة، لكنها في حقيقة أمرها أنموذجا علميا وعمليا وواقعيا في أدب الولد مع أبيه وإن كان كافرا، بل وإن كان رأسا من رؤوس الكفر، في رسالة للأبناء مفادها: أن اتقوا الله في آبائكم، واستوصوا بهم خيرا، وتأدبوا بأدب القرآن معهم، فإن رضاهم مقرون برضا الرحمن عنكم. هذا نبي الله إبراهيم يناصح والده مستخدما كل الوسائل التي تبين له الحق وترشده إليه، والمقال سيتجاوز العاطفة الجياشة، والحوار البناء، والحب العميق، والحرص الشديد، ويتوقف عند الأسلوب في النصح، ذلك أن كثيرا من أولادنا ربما لا تنقصه العاطفة بقدر ما ينقصه لغة الخطاب الآثر مع الأب. حوت النصيحة خمسة أساليب تضم فنوناً من التربية متنوعة، وأساليب للدعوة بديعة باهرة، نقف عند ثلاثة منها: ١-أسلوب استثارة العاطفة: ببيان راق وأسلوب مبهر كرر الخليل كلمة (يا أبت) في بداية كل معنى أراد إيصاله له، كررها أربع مرات في أربع آيات: (يا أبت) تعبير يستثير به عاطفته ويذكره بأنه زرعه الذي زرع وسنده الذي يتكئ عليه، وكأنه يقول له: أنت (أبي) وإن عظم ذنبك حتى وصل إلى الكفر البين. أنت (أبي) وإن خالفتني في أعظم قضية مصيرية. أنت (أبي) ولن يحجب برك في قلبي عظم ما فعلت. ٢-أسلوب الاستفهام الاستردادي: وهو من الأساليب العلمية الحديثة، ويعنى بها طرح استفهام جوابه فيه لأجل أن ينتبه السامع إلى فساد معتقده من خلال السؤال ذاته، يقول الخليل لأبيه: يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر؟ سؤال صادم أشبه بزلزال أتى على غير توقع لا يملك إنكاره ولا النجاة منه. ٣- أسلوب التوكيد الذي يحمل الثقة بقوة الحق المعتقد: «يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك» ثقة مؤكدة ويقين جازم لا يملك المخالف أمامه إلا التسليم لقوة الحق أو المكابرة حق القوة والتي قد ينتصر بها المخالف في جولة لكن لا يكتب له دوام السيادة، فأضعف الناس حجة أكثرهم صراخا وتهديدا. لجأ أبوه الي القوة الباطشة فقال: (أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم؟ لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا) وهي حجة كل عاجز حين لا يقدر على رد المنطق أو لا يحسن أدواته، لابد أن يستدعي مباشرة من الأرشيف الفرعوني عضلاته لأنها مريحة له عند العجز. بهذه الجهالة تلقى الأب دعوة الوالد إلى الهداية. وبهذه الغلظة قابل لين الخطاب، لكن شتان بين قلب هذبه الإيمان وقلب أفسده الطغيان! لم يغضب الخليل ولم يفقده ذلك بره وعطفه وأدبه مع أبيه، فقال: سلام عليك..لا جدال ولا أذى ولا رد للتهديد والوعيد. هذه رسالة لكل متطاول على أبيه بالحق أو بما يراه حقا: لن تكون قطعا في مقام إبراهيم وأبوك ليس كأبيه، فاتق الله فيه.