10 سبتمبر 2025

تسجيل

في رثاء خليفة بن خالد بن ناصر السويدي

30 يونيو 2019

يقول رب العزة والجلال في محكم كتابه العظيم: "كل من عليها فان. ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام" سورة الرحمن الآية 26-27. هكذا الدنيا... وصفها مرة سماحة الشيخ المجاهد يوسف القرضاوي- أطال الله في عمره ومتّعه بالصحة والعافية – فقال: " أرحام تدفع، وأرض تبلع". فالحياة كقطار يسير بركابه من محطة انطلاقته الأولى إلى محطة هدفه الأخيرة، ويتوقف في طريق تلك الرحلة هنا وهناك، ليصعد إليه البعض ويترجل منه آخرون، البعض يُودَّع والبعض يُستقبَل، في مسيرة مضت وستمضي حتى قيام الساعة. هكذا، وبالأمس القريب وبالتحديد فجر يوم السبت 8 يونيو 2019 الموافق 5 شوال 1440ه، شاءت إرادة الله أن تتوقف رحلة أخي وصديقي العزيز "خليفة بن خالد بن ناصر السويدي" مع قطار الحياة، راحلاً إلى الآخرة تاركًا في قلبي وقلوب محبيه حسرةً وألمًا شديدين. عرفت "بو خالد" منذ سنوات عديدة، وزادت معرفتي به عندما كنت أتردد على جلساته، سواءً في مكتبه أو في مجلسه، بصحبة العديد من الإخوة والأصدقاء، هذا المكان الذي جمعَنا منذ ثمانينيات القرن الماضي ومر به خيرة رجال هذا البلد. ففي جلساته التي لم تُمل أبدًا، كان يتم مناقشة الكثير من الأحداث والقضايا المحلية، وتلك التي يشهدها عالمنا العربي ومحيطنا الخليجي، كذلك كان يفوح منها عبق الماضي ومرحلة الخمسينيات والستينيات التي عاشها "بو خالد" مع رجالات قطر، وكان يسرد لنا العديد من أحداثها وذكرياتها، وكأنها شريط يمر أمام عينيه، مترحمًا على من رحل منهم ومستذكـراً من هم على قيد الحياة بالخير والذكر الطيب. كان "خليفة السويدي" أرشيفًا غنيًا بتلك الأحداث، فقد دوّنها في قلبه وفكره، بل كنت أعجب أحيانًا من تذكُـره أناسًا بأسمائهم الكاملة من خارج قطر كان قد التقى بهم رغم رحيل البعض منهم منذ سنوات، وكانت هذه الذكريات بحاجة فقط إلى توثيق وحفظ، لتطَّلع عليها الأجيال القادمة، فرواة الأحداث وحفاظها قليلون، وها نحن نودّعهم يومًا بعد يوم دون أن يُوْدَعَ ما احتوت ذاكراتهم من أحداث في سجل لا غنى للأجيال عنه. كان "بو خالد" رجلاً كريمًا، امتدت أياديه بالخير إلى الكثير من الفقراء والأرامل والأيتام، لم يرُد محتاجًا جاء يومًا يطرق بابه، كل ذلك دون أن يعرف أو يشعر به أحد، كانت علاقته مع الخير متجذرة في نفسه وروحه. وأروي هنا هذه القصة اليوم بعد رحيله. في أبريل 2001، تعرض ابني "محمد" لحادث سيارة مؤلم... كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية عشرة ليلاً عندما أُبلغتُ بالحادث. توجهتُ إلى مستشفى حمد، اجتمع حوله العديد من أصدقائه، كانت إصابته بليغة وحالته حرجة، كان موقفًا صعبًا أن ترى ابنك في مثل تلك الحالة، إلا أن الرضا بقدر الله والتوكل عليه كان البلسم الوحيد في ذلك الموقف. كنت أراقب حالته مع فريق الأطباء الذين أكدوا لي بأن الأمر بيد الاستشاري الجرّاح ؛ ليقرر إن كان علاجه ممكنًا هنا في قطر أو يتحتم سفره إلى الخارج. صباح اليوم التالي أبلغني الدكتور الماهر "محمد الخيارين": أنه بالإمكان إجراء العملية في مستشفى حمد، وهم فقط بحاجة إلى موافقتي. وفي تلك اللحظة اتصل بي "خليفة السويدي"، لا أدري كيف وصله الخبر، وطلب مني أن أنقل ابني إلى ألمانيا للعلاج وعرض أن يتحمل كامل نفقات الرحلة والعلاج، المهم سلامته. دقائق واتصل بي الرجل الشهم الآخر الوجيه "علي بن سلطان العلي" يطلب مني السفر به إلى الخارج وعلى نفقته الخاصة أيضا. شكرت لهما جميعًا مشاعرهما النبيلة تلك، توكلت على الله وقمت بتوقيع الورقة التي طلبها الدكتور "الخيارين"، ودخل "محمد" غرفة العمليات، وخرج منها، بفضل الله، سالمًا معافى. بعد الشفاء كان لابد أن آخذ بيد "محمد" ليشكر من يستحق الشكر، بعد الله، على مبادرتهم الإنسانية، فهذا ديدن رجال قطر وتلك مواقفهم الكريمة. إن التاريخ والمواقف الإنسانية لهذا البلد وحكامه وشيوخه ورجاله مشهود لهم على مر الأيام، ولو كان لي من المساحة لسطرت من تلك المواقف الكثير، ما سمعتُ منها وما أكثرها، وما عشتُه وشاهدتُه بنفسي. وإنه لمن المؤسف أن يمر في حياتنا رجال وتمر أمامنا مواقف لا نستذكرها إلا عندما يرحل أصحابها، أمّا وهم على قيد الحياة وبين ظهرانينا؛ فإننا نخجل من الحديث عنها خشية سوء الظن. عندما أودّع أخي العزيز "خليفة بن خالد السويدي" فإنني أودّع رجلاً غرس في حياتي وفي نفسي ذكريات يصعُب عليَّ نسيانُها. رحم الله أبا خالد، ورحم أموات المسلمين جميعا، وأسأل الله أن يجمعنا بهم في الدار الآخرة في جنات النعيم.