11 سبتمبر 2025

تسجيل

لقاء قبل الرحيل مع المؤرخ د. عبدالعزيز عبدالغني

14 فبراير 2022

بوفاته تكون صفحة من صفحات التاريخ للخليج والجزيرة العربية قد انطفأت. في الأسبوع الماضي نعت الأوساط الثقافية في قطر وفاة المؤرخ الأستاذ الدكتور عبدالعزيز عبدالغني، وهو الرجل الذي أثرى ساحة الإعلام والثقافة والتاريخ بمؤلفاته، والتي كانت مرجعاً للعديد من المهتمين بتاريخ المنطقة وأحداثها عبر السنين، وقد يكون هذا الرجل من القلائل، من غير أبناء المنطقة، الذين اهتموا بالبحث والدراسة لأحوالها وظروفها وأحداثها عبر الزمن، فتنقل بين دولها يدون التاريخ من الوثائق والكتب والمراجع، بل قادته قدماه ليزور بعض دور اهتمت بهذه الوثائق في خارج العالم العربي، ليس لأجل شيء سوى أن يدعم ما يكتبه ويدونه. يوم الأربعاء 21 يوليو 2021م، قمت بزيارته في منزله بالدوحة، رافقني في هذه الرحلة ابني جاسم، وكذلك كان برفقتنا الأخ العزيز الأستاذ إبراهيم الدويري، والذي كان له الدور المهم في ترتيب هذا اللقاء. كان هدفي من الزيارة هو التعرف على الأستاذ عبدالعزيز والجلوس معه والحديث إليه في شتى المواضيع التي كتب عنها مع حرصي البالغ على الاستفادة منه في نوعية المصادر التي استند إليها للحصول على المعلومات التي وردت في هذه المؤلفات. الجلوس والحديث مع الرجل متعة، الشيء الوحيد الذي أزعجني هو خشيتي من أن نثقل عليه الزيارة، خاصة وأن عامل السن لم يكن مساعداً، ناهيك عن أن موعد الزيارة كان صيفاً، ولكن للأمانة والصدق وجدت أمامي رجلاً صادقاً في طرحه، مؤمناً بما يكتبه ومقتنعاً بما أورده من معلومات، ثم الأهم مرحباً ومستمتعاً بالحديث معنا. ناقشته في بعض ما طرحه في كتبه، قلت له: قد تكون بعض المعلومات التي وردت في هذه الكتب غير دقيقة وغير متوافقة مع الدافع الذي سمعنا عنه سواء في الذين عاشوا أحداث المنطقة في تلك السنوات أو الذين تعايشوا مع أولئك الذين نقلوا إلينا العديد من الأحداث، وأنا شخصياً لا أشك فيما روي لي من طرفهم، لأنني أتوافق مع هؤلاء بحكم قربهم من صنّاع الأحداث في ذلك الزمان أو تلك الفترة، لذلك أرى أن نقل الأحداث كما رويت بلسانهم تحتوي على مصداقية أكثر، وتتواءم طبيعة الأحداث مع واقع اليوم. قال لي الأستاذ عبدالعزيز: أنا لست من أبناء المنطقة، لذلك يصعب عليّ أن آخذ الأحداث من أشخاص، لأن كل شخص سوف يروي الحدث من وجهة نظره هو شخصياً، وحسب ما تناقلته الأجيال، وهذا يتوافق مع أبناء الخليج عندما يشرعون في كتابته أو حتى روايته، لكن لباحث مثلي لا ينتمي لهذه المنطقة، ليس من الإنصاف له أن يكتب ما تتناقله الألسن، بل من الضروري للمصداقية أن يبحث عن مراجع ووثائق تحدثت عن تاريخ الجزيرة العربية والأحداث التي مرت بها. ولمكان مثل هذه المنطقة، فإن أنسب مرجع تستفيد منه هو بريطانيا والهند، فمنذ مطلع القرن التاسع عشر، عندما شرعت القوات الملكية البحرية البريطانية شواطئ الخليج العربي، تحت حجة حماية مصالحها في درة التاج البريطاني "الهند"، وحماية خطوط التجارة البرية والبحرية. لذلك هم، أي الإنجليز، الأنسب للحصول على المعلومات، فقد كتب الكثير منهم عن الأحداث التي مرت هنا، لذلك ذهبت إليهم وطلبت الحصول على بعض من هذه الوثائق والتي دونت أحداث الخليج، ووجدت هناك كل التسهيلات التي أريد أن أحصل عليها. وللحق فإنه في الغرب من السهل عليك أن تحصل على ما تريد، وبأريحية كاملة، فعندهم نظام جميل، يرى أن المعلومات والمخطوطات والوثائق تفقد سريتها بعد فترة من الزمن، قد تمتد ما بين 30 - 50 سنة، حسب النظام في كل دولة، ثم تكون في متناول أيادي الباحثين أو الدارسين، وتجد كل دعم وعناية واهتمام من القائمين على هذه المراكز، ولعل هذا الشيء نفتقده في العالم العربي، فما زال الحصول على المعلومات في مراكز البحث ودور الوثائق العربية، رغم قلتها، إلا أنك تجد صعوبة في توافرها، وهذا مع الأسف الفرق بين من يدرك أهمية العلم والبحث والدراسات، ومن لا يعطي هذا الشأن الاهتمام المطلوب، وقد يكون هذا يحدث بحسن نية ولكن المسألة لا تخضع للعواطف، فأمام الباحث الصادق يجب أن تسهل له المعلومة ليوفرها لقرائه ومتابعيه. ولكن في المقابل هناك بعض الوثائق السرية لدى الغرب، ليس من السهولة الحصول عليها، بل هذا يتطلب جهداً مضاعفاً، وتخضع لظروف معينة، فهم، أي القائمين على هذه المراكز، خاصة تلك التي تتبع جهات أمنية، أقول تخضع لاعتبارات عديدة، منها البيانات الشخصية للباحث والمؤلفات التي قدمها أو نشرها، ثم عليه أن ينتظر حتى يحصل على الموافقة، وقد تمتد فترة الانتظار لتصل لأكثر من سنة، وإذا ما تمت الموافقة له للحضور للاطلاع على هذه الوثائق، فإنه يدعى وقبل دخوله قاعة الاطلاع، عليه أن يتجرد من كل شيء سوى ملابسه، فلا يسمح له بحمل قلم أو ورقة أو جوال أو كاميرا، بل له حق الاطلاع والقراءة فقط، ويحاول أن يحفظ ما يقرأه، وعندما يدخل إلى القاعة، يؤتى بشخص، رجل أو امرأة، ويحمل بين يديه الكتاب أو الوثيقة التي تتعلق بالبحث الذي كتب عنه، عندما شرع في تقديم الطلب، ويوضع الكتاب أمامه، ولا يحق له لمس الكتاب، بل الشخص الذي يقف بالقرب منه هو الذي يقلب الأوراق حسب ما يراه مناسباً من وقت، فقط على الباحث أن يقرأ ويطلع على الصور، إذا ما كان في الكتاب أو المصدر بعض من الصور، ولا تستغرق الزيارة أكثر من ساعة على أكثر تقدير. الشيء الوحيد الذي يعتمد عليه الباحث في هذا الوضع هو ذاكرته، وما أسعفته في قدرتها على تخزين المعلومات التي أمكنه الإطلاع عليها. ويقول الدكتور عبدالعزيز عبدالغني: عندما أتيحت لي الأقدار أن أزور هذه الأمكنة، هالني ما شاهدته، وليس فقط ما قرأته، من صور لشخصيات عربية كان يستحيل تصويرها، ولكن هذا ما شاهدته بحق، "أعتذر عن ذكر أسماء أصحاب هذه الصور"، مما يعني أن هذه الوثائق تحتوي على دقة متناهية لا تخطر على بال الباحث، هكذا يقول عبدالعزيز عبدالغني، وهو يصف ما شاهده وليس ما قرأه في تلك الوثائق، وهي مهمة شاقة تحسب للمؤلف، والذي بذل من الجهد والعطاء الشيء الكثير، وأعتبر أن كل ما كتبه هو يمثل وجهة نظره الشخصية في الأحداث التي مرت بالمنطقة، وقال أنا لا أكتب حسب رغبات الغير، هذا يتنافى مع مبدئي كمؤرخ وباحث، وقال أعرف أن بعض ما تناولته في كتبي قد لا يعجب بعض القراء، وهذا حقهم، ولكن هذا مقدار جدي واجتهادي، نقلت الأحداث كما حصلت عليها من مصادر ووثائق ومخطوطات، وليس عبر الروايات، الروايات يجب أن ينقلها أبناء المنطقة، هم يملكون مصداقية أكثر مني في ذلك، أما لشخص مثلي أنا، فأنا أرى أنه عليّ أن أتجنب ذلك، حتى لا تدخل العاطفة في نقل شيء قد يتعارض مع وجهات نظر الآخرين. وفي سرد الحديث أذكر أنه قال لنا، إنه التقى يوماً مع أحد الزعماء العرب، وبالتحديد زعيم دولة خليجية وقال له، بعد جلسة تاريخية دارت بينهما، أنت يا دكتور عبدالعزيز، قد تكون أفضل مني في السرد الكتابي، ولكنني أفضل منك في السرد الراوي، أي أن هذا الزعيم قد حفظ الأحداث مما سمعه من العديد من الأجيال التي مرت أمامه واستمع من روايات الأحداث عن طريقهم، بعكس الدكتور عبدالعزيز الذي اشتق معلومات من الكتب والوثائق، كما تحدث عن تجربة تنقله من بلد عربي لبلد عربي، وقال زرت إحدى الدول العربية، وعندما نزلت في مطارها هالني ما شاهدته من شعارات معلقة على جدران المطار وفي الطرق، وهي تتحدث عن "خيالات" وليست "أفكار"، ولكن المشكلة أن هذا الطرح المدون على شاشة الساحات وأمام الناس لا يتوافق مع المنطق ولا العدل، وأراه هراءً وغير واقعي حتى ولو كُتبت بأسلوب فلسفي، قلت لهم هذا تخبيص؟ ما هذا الكلام؟، من يصدق هذا الكلام؟ قالوا لي أسكت!! هذا كلام القائد وفلسفته.. عرفت لحظتها أن هذا الرأي والذي طرحته قد يسبب لي مشاكل، بعد أن لمست بعض المتاعب والتي بدأت أتعرض إليها، فقررت الرحيل ليلاً وعبر البحر، تاركاً كل شيء من ممتلكاتي الشخصية والمالية ولم أعد لذلك المكان من يومها. واختتم مقالي بعبارة جميلة قالها لنا الدكتور عبدالعزيز عبدالغني، حيث قال: طوال مشواري المهني، وتعدد قراءاتي وبحوثي في مجال التاريخ والوثائق، فقد تعرفت واقتربت، بحكم القراءة والمطالعة والبحث، للعديد من الشخصيات الخليجية والعربية، ولكنني أقولها بحق وبدون مجاملة، إن أكثر شخصية بهرتني وأعجبتني هي شخصية الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني، والذي تسمونه في قطر "المؤسس"، هو بحق شخصية فذة، وزعامة فريدة، جمع بين الدين والدنيا، فصنع مجداً ووطناً خلده التاريخ، وعندما وقف في وجه المطامع البريطانية في الخليج، حيث انتصر لمبادئه وقيمه الدينية. قال أحد جنرالات الإنجليز والذي كان مقيماً في المنطقة: قولوا للشيخ جاسم إن هناك "عرابي" واحداً قد ظهر في مصر، فرد الشيخ جاسم وقال: قولوا له إذا كان في مصر "عرابي" واحد، ففي قطر "2 عرابي"، كناية عن شجاعة الشيخ جاسم وصلابة موقفه وموقف الشعب القطري خلفه يومها، وذلك في مواجهة التعنت الاستعماري في منطقة الخليج. لذلك قد تكون "قطر" البلد الوحيد في المنطقة الذي لم يتمكن الإنجليز من إقامة قواعد عسكرية فيه. ورد منه، أي من الدكتور عبدالعزيز، من خلال الوثائق السرية التي اطلع عليها، رحم الله الأستاذ الدكتور عبدالعزيز عبدالغني.