19 سبتمبر 2025

تسجيل

لا تلعن الظلام وأوقد له شمعة

30 أبريل 2014

الظلام كاسمه: غياب رؤية وضياع منهج، وهو قسمان: حسي ومعنوي، فالظلام الحسي هو انسحاب الضوء أو انسحاب العكاس الصادر من العين لمشاهدة المرئي، والظلام المعنوي هو العجز المطلق لوجود مخرج من ألم أضر به أو الضيق أحاط به، والناس أمام المصائب ثلاثة:أحدهم رجل يُشخص الواقع المؤلم بضبابية قاتمة ويعيش فيه بشفافية بالغة فينتج عن ذلك حقد وحسد وغل وسب وشتم ولعن، ويظل هكذا واقفا مكانه لا يتقدم للامام خطوة فلا هو يقدم الحل المرجو ولا هو يساعد على حل ولا هو يسكت تاركا الساحة لغيره ليجد حلا لها، بل دائما شعارهم "وهل نصلح نحن ما أفسده الدهر" وللأسف طبيعة الأمة العربية في مجملها ذاك الصنف من الناس.وأما الشخص الثاني فرجل فضائي الفكر يحلق في عالم من الأوهام والخيالات دون الانتباه إلى محيطه ولا إلى ما أصابه بنظرة واقعية.. فشظف العيش الذي يعيشه سينتهي بقصر وذهب ولؤلؤ دون أن يكد أو يتعب، والدراسة المتعثر فيها ستفضي إلى أن يكون أول الدارسين دون جهد منه، كأن شعاره في الحياة "كل كبيرة أو صغيره: خلها على الله" وكأنه ينتظر أن ينزل الله من عليائه جل ربنا وعز من أجل أن يصلح له ما يستطيع هو أن يصلحه!وبعضهم نظم في هذا شعرا فقال قائلهم:لا تدبر لك أمرا إن أولي التدبير هلكىحقق الأمر تجدنا إنا أولى بك منك منك ولو حقق الأمر حقا لعلم أنه بهذا يعارض صريح القرآن وصحيح السنة.وأما الشخص الثالث: فرجل يحيط بالواقع المؤلم بما فيه ويبحث في جنبات المصائب عن الحلول فإن لم يكن، فالبحث عن الخروج بأقل الخسائر، فهو دائم التفكير فيما ألم به مقدما البديل لما أصابه أو مشاركا في الحل بجزء ولو قليلا.وإن المستعرض للمنهج الإسلامي يجد أن الصنف الثالث الذي يحمل الإيجابية مع النظرة الواقعية وتقديم ما يستطيعه بما في يده هو عين مراد الشارع الحكيم. وسأضع بين يدي القاريء الكريم موقفين من سورة واحدة هي سورة النمل المكية التي لا تتجاوز آياتها ثلاثا وتسعين آية لتجلي لنا هذا المعنى الواضح..الموقف الأول: موقف نملة سليمان يقول الله تعالى (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)سمي الواد بوادي النمل أشارة إلى أنهم سكانه الذين يقطنون فيه، وفي هذا الوادي جاءهم نبي الله سليمان ومعه جنده، فنظرت نملة، هكذا حكى القرآن بالتنكير لا بالتعريف لنفهم أنها ليست من القيادات العليا وليست من أهل الحل والعقد بل هي نملة عادية جند من الجنود لكنها عاشت على الايجابية، فحذرت بني قومها وقدمت لهم هذا الإنذار الذي ربما يهلكها معهم إذا لم يحسنوا الاختباء، فابتعدت عن الأنانية وحب الذات ونظرت إلي مصلحة الأمة مقدمة ذلك على مصلحة الفرد.ثم هنا نقطة أخرى وهي حكمتها في العرض وطرحها للأمر من دون تهويل ولا تهوين، بل واعتذار مقدّم لسليمان وجنده فهي القائلة: يا: وهنا نادت، أيها: نبهت، النمل، وهنا عينت، أدخلوا: أمرت، مساكنكم، خصت، لا يحطمنكم: حذرت، سليمان: خصصت، وجنوده: عممت، وهم لا يشعرون: اعتذرت. فهل رأيت روعة في الأداء أكثر من ذلك.والموقف الثاني لهدهد سليمان الذي تخلف عن الحضور فسأل عنه متوعدا.. يحكى القرآن الواقعة قائلا (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) ومع هذا الوعيد الشديد لم يعبأ الهدهد لا بالوعيد ولا بالتهديد لأنه رأى واقعة خطيرة قد حدثت ينبغي له أن يتصدر لها وأن يعالجها، فاستيقن الخبر وأتى في صلابة وقوة ليقول لسليمان عليه السلام: (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ) إنه يقين من أتى خالصا لله لا لغرض من أغراض الدنيا متحملا مسؤوليته التي يري أن الله محاسبه عليها، فماذا رأى؟ (إني وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).يا ليتنا نأخذ من نملة سليمان التي كانت سبب نجاة بني جلدتها ومن هدهده الذي كان سببا في خروج مملكة سبأ من الضلالة إلى الهدى؛ ما نواجه به أزمات الحياة وما أكثرها، لنتقدم ولو خطوة ولنوقد في الظلام ولو شمعة، خير لنا من الاختباء خلف لعن الظلام ونحن أكثر الناس تضررا به.