11 سبتمبر 2025

تسجيل

كَـعْـبُ أَخِـيل في نفوسنا

30 مارس 2021

في الأساطيرِ الإغريقيةِ، كان أَخيل ابناً لـلملكِ بيليوس، من إحدى حورياتِ البحرِ وتُدعى ثِيتس. وأرادتْ أمُّهُ أنْ تجعلَـهُ خالداً، فَغَمَرَتْـهُ في نهرِ استيكس الـمُقَدَّسْ، وهي مُمْسِـكَةٌ بكعبِـهِ، فصارَ جسدُهُ مَحْمياً منَ الجراحِ الـمُمِيتةِ ما عدا كعبَـهُ. ولَـمَّا حاصرَ اليونانيونَ مدينةَ طروادةَ، كان في صفوفِهِم، وقَتَـلَ كثيراً منَ الطرواديين، حتى رماهُ أحدُهُم بسَهْمٍ مسمومٍ في كعبِـهِ، ولَقِـيَ مَصرعَهُ، فصارَ كعبُـهُ رمزاً لنقاطِ الضَّعْفِ القاتلةِ في الإنسانِ. لو دَقَّـقْـنا النَّظَـرَ في نفوسِـنا، فسنجدُ أنَّ لكلِّ واحدٍ منا نقطةَ أو نقاطَ ضعفٍ نحرصُ على ألَّا يعرفَ الآخرونَ شيئاً عنها، رغم أنَّ بعضَها ليس إلا أوهاماً تَضَخَّمَتْ حتى صارتْ كالحقيقةِ نعيشُها في اللاشُعور. فَـمِـنَ الأشخاصِ، مَنْ يكونُ ذا مكانةٍ في المجتمعِ، وبين أخوتِـهِ وأهلِـهِ لأنَّهُ حصلَ على شهادةٍ دراسيةٍ عليا، وشَغَلَ لسنواتٍ طوالَ وظيفةً مرموقةً. وعندما تقاعدَ، شعرَ بأنَّـهُ يندثرُ، وتَوَهَّمَ أنْ لم يَبقَ في الحياةِ مُتَّسَـعٌ ليُقَـدِّمَ جديداً، أو أنْ يسيرَ في طريقٍ يستثمرُ فيه علمَهُ وخبراتِـهِ وعلاقاتِـهِ لإفادةِ الناسِ بجديدٍ في مجالِ تخصصِـهِ. وهنا، يَتَّخِـذُ صراعُـهُ النفسيُّ صوراً عدَّةً يُخفي وراءها كَعْبَ أخيل الذي هو شعورُهُ الوهميُّ بانتهاءِ دورِهِ في الحياةِ. فيبدأُ بانتقادِ الشبابِ الـمُتميِـزينَ بوعيهم وثقافتِهم، وانتقاصِ ما يقدمونهُ منْ إبداعٍ أدبي أو فكري أو فني. وتَتَضَخَّمُ مُعاناتُهُ، بمرورِ الأيامِ، فيفرُّ منها بتضخيمِ الأنا في نفسِهِ حتى لا يكادُ يرى سوى نفسِـهِ. وأحدُ الأشخاصِ تَعَرَّضَ لتجربةِ زواجٍ مَريرةٍ معَ زوجةٍ مُتَـنَمِّرَةٍ لم يجدْ منها إلا احتقاراً لكل ما يفعلُـهُ. وعندما طَلَّقَها أصبحَ زواجُهُ الفاشلُ كَعْبَ أخيل الذي يحاولُ سترَهُ عنِ العيونِ كي لا يُتَّخَـذَ سبيلاً للسخريةِ منه. وصارَ يعيشُ حياتينِ، أولاهما معَ الناسِ كشخصٍ سَوِي مُتَّزنٍ ذي شخصيةٍ قويةٍ، والثانية مع نفسِـهِ التي يجلدُها ويَقسو عليها بشعورِهِ بدُونيَّتِـهِ. وإحدى الفتياتِ الـمُراهقاتِ، لم تُساعدُها بيئتُها الأُسَريةُ الـمُتَصَدِّعةُ على تكوينِ شخصيةٍ متماسكةٍ كإنسانةٍ ذاتِ رأيٍ ومواقفَ مستقلَّةٍ، فأخذتْ تُخفي حقيقةَ مُعاناتِها الأُسَرِيَّةِ، وتعيشُ في عالمٍ معزولٍ خاص بها، تداوي به كَعْبَ أخيل في نفسِها بالأحلامِ والهروبِ منَ الواقعِ. بل إنَّها قد تبحثُ عنِ التعويضِ العاطفيِ في أشخاصٍ لا إيمانَ يَعصمُهـم، ولا قِـيمَ تجعلُهُم يرونَ فيها إنسانةً مسكينةً، منَ الخطيئةِ الإضرارُ بها. وفي حالتِها، يكونُ الكعبُ حفرةً بلا قاعٍ، مملوءةً بالمصائبِ والبلايا التي تتهدَّدُها في شرفِها وسُمعتِها. والصراعُ النفسيُّ بسببِ نقاطِ الضعفِ الحقيقيةِ والـمُفْتَرَضَةِ ليس مجردَ صراعٍ داخلي لا يبدو للعينِ الـمُدَقِّـقَةِ، وإنما يتخذُ صوراً سلوكيةً تدلُّ عليه. فالشخصُ الذي له أبٌ مدمنٌ على الـمخدراتِ أو معاقرةِ الخمرِ نجدُهُ في حالتينِ: الأولى؛ كشخصٍ انعزاليٍّ يخشى مخالطةَ الناسِ خوفاً من أنْ يكونوا عارفينَ بسيرةِ أبيه، فينظرونَ إليه بدونيةٍ، ويَتخذونَها سبيلاً لتجريحِـهِ والغَضِ من شأنِـهِ. والثانيةُ؛ كشخصٍ انفعالي مرحٍ جداً، يقولُ نكاتاً عن والدِهِ، ويسخرُ من نفسِـهِ، و له شعبيةٌ بين رفاقِـهِ الذين لا يدركون أنَّـهُ يتألمُ بشدةٍ، ويتمنى لو لم يكنْ أبوه هذا الرجلَ الـمُنحرفَ. وفي كِـلْـتَا الحالتينِ، نجدُ أنَّ كعبَ أخيل الذي يُخفيه عن الناسِ هو تَـمَنِّـيهِ موتَ أبيهِ، وهو أمرٌ يُفْزِعُـهُ كثيراً، فيهربُ منه إلى مزيدٍ منَ العُزلَـةِ أو الانفعالِ الـمُبالَغِ فيه. ولكن، ما هو دورُنا في التخفيفِ من تأثيراتِ كعبِ أخيل الـموجودِ في نفوسِ كثيرينَ منا؟. الإجابةُ، بالطبعِ، ليستْ بالبساطةِ التي نعتقدُها، لأنَّنا لا نستطيعُ الهروبَ من مواجهةِ حقيقةٍ تقولُ إنَّ جزءاً من ثقافتِنا الـمُجتمعيةِ فيه قسوةٌ وأنانيةٌ تتناقضانِ مع روحِ وإنسانيةِ الإسلامِ الحنيفِ. فنجدُ أنَّ التَّشَفِّي بروايةِ القصصِ الـمُضَخَّمَةِ عن المُعاناةِ النفسيةِ لفلانٍ و فلانةٍ، أمرٌ طبيعيٌّ في مجالسِنا، والـمُصيبةُ، أنَّنا نُخفي تَشَفِّـينا بغلافٍ منَ التعاطفِ، ولا ندرك كم نحنُ خاطئونَ. إذن، لابدَّ منْ إسهامِ كلِّ واحدٍ منا في نَشْـرِ مفاهيمِ القبولِ بالآخرِ، واحترامِ خصوصيتِـهِ، وصولاً إلى ترسيخِ ثقافةِ التَّعدديةِ الـمجتمعيةِ التي تنهضُ بها الشعوبُ والأممُ. كلمة أخيرة: قد تكونُ كلمةٌ طيبةٌ نقولُـها هي بذرةُ الأملِ التي نُلقيها في نفسِ شخصٍ، فتنمو، وتُزهِـرُ، وتُثمرُ بالخيراتِ، وتُغيِّرُ مسارَ حياتِـهِ. كاتِـبٌ وَإِعْـلاميٌّ قَـطَـرِيٌّ ‏[email protected]