11 سبتمبر 2025
تسجيلقبل السابع من أكتوبر 2023، ظنَّ كثيرون أن فلسطين دخلت حالة الاحتضار الجغرافي والتاريخي، وشعروا أن السلام مع الكيان الصهيوني سيكون تحت شعار: السلام مقابل السلام فقط، كما قال نتنياهو، أي أن استعادة الفلسطينيين للأراضي التي احتُلتْ سنة 1967، وإقامة دولتهم عليها، أصبحت من المستحيلات. اللافت للنظر، أن القضية الفلسطينية أصبحت رمزاً لشعوب العالم في التضحية والثبات، فحطم طوفان الأقصى كل خرافات السردية الصهيونية التي سادت طوال ستة وثمانين عاماً، وبات يهود العالم، أنفسهم، يشعرون بخطر الكيان الصهيوني عليهم، فشارك كثيرٌ منهم في المظاهرات الضخمة في نيويورك ولندن ضد جرائمه في غزة. ورغم ذلك، يخرج أناسٌ محسوبون علينا ليقولوا إن الرسول، ﷺ، لو كان حياً لَما نَصَرَ غزة لأن كرامها لم يحسبوا حساباً لقوة العدو وحلفائه. وأقول لهؤلاء الخاذلين المتخاذلين إن هَدْيَ الرسول، ﷺ، وعزة نفسه بالإسلام يسريان في نفوس أهل غزة المؤمنين بالله، الظاهرين على الحق، الذين لا يضرهم مَنْ خذلهم. وتنبغي الإشارة إلى أن كرام غزة يقاتلون وحدهم، ويرفعون راية النصر أو الشهادة رغم ما يتعرض له أبناؤهم وبناتهم وآباؤهم وأمهاتهم. هذا الصبر العظيم على مُصابهم في ذويهم لم يزدهم إلا إصراراً وحماسةً تجعلنا نقف بخجلٍ أمام قامة الإنسان الفلسطيني الشامخة في بحر دمائه، واقفاً على تربةٍ صلبةٍ من الكرامة والعزة. كما حطم الغزاويون، أيضاً، المفاهيم العسكرية المعتادة لثورات الشعوب؛ والتي كان من ركائزها وجود جارٍ ذي قوةٍ ومهابةٍ يدعمها. فهم وحدهم بلا دعمٍ عسكريٍّ أو سياسيٍّ، بل إن المدنيين منهم يموتون جوعاً ولا ناصرَ لهم إلا الله تعالى. الأمر الأهم، في معركة طوفان الأقصى، هو صمود مواطني غزة رغم المآسي العظيمة التي يعيشونها؛ فقد حطموا الدعاية الإعلامية الصهيونية، والتي ترددها بعض وسائل الإعلام العربية، حول عداء الغزيين للمقاومة. وقد فشلت، أيضاً، محاولات إقامةِ إدارةٍ من وجهاء قطاع غزة تتبع الكيان الصهيوني، فلم يعد أمامه سوى الاستمرار في جرائمه ظناً منه أنها ستقتل روح المقاومة، وهو ما يثبت أنه لم يتعلم شيئاً منذ 1948، فكل قطرة دمٍ زكيةٍ أنبتت عشرات المقاومين، وكل شهيدٍ أصبح قدوةً للأجيال كلها. في غزة، كان كرام أمتنا، طوال العقود الثلاثة الماضية، يتابعون إعدادهم لإحياء القضية الفلسطينية، ويضعون الخطط لمواجهة المخطط الصهيوني. وكانت أولى العقبات أمامهم أن قطاع غزة مسطحٌ بلا جبال ولا غاباتٍ ولا وديان تسمح لهم بمواجهة العدو على الأرض، فتفتقت العبقرية العسكرية الفلسطينية عن حل غير مسبوقٍ تمثل في بناء تضاريس تحت سطح الأرض؛ هي الأنفاق الضخمة التي تغطي القطاع كله. ومن متابعة المعارك، نستنتج أمرين: الأول، أن شبكة الأنفاق ليست متصلةً، فكلما قام المجاهدون باستدراج الصهاينة إلى أحدها ثم تفجيره بهم، يظهر سواه غير بعيدٍ عنه في نفس المنطقة. والثاني، أن القيادة العليا للمجاهدين قامت بإعداد قياداتٍ عسكريةٍ ذات مؤهلاتٍ عظيمةٍ في التخطيط الفردي واتخاذ القرار دون الرجوع إليها. أي أن المجموعات المقاتلة تعمل بأسلوب عنقود العنب، فكلها تتبع قيادةً واحدةً، لكن لها الحرية في العمل حسب لظروف العسكرية المحيطة بها. وقد أربك هذا الأمرُ العدوَّ، فأصبحت قواته فريسةً سهلةً، ولولا التعتيم الإعلامي لَعَرَفَ العالم أن أعداد قتلى العدو تفوق بعشرين ضعفاً ما يعلنه.. والسؤال المطروح، ما هي النتيجة المتوقَّعة للعدوان الهمجي على غزة؟، والجواب هو النصر. وهذا النصر ليس عسكرياً بالمعنى المعروف، لأن الصمود الأسطوري لكرامنا في غزة، ومحافظتهم على وحدة الصف، وعدم قدرة العدو على اختراقهم مخابراتياً، يجعلهم الركيزة الصلبة لأية مفاوضاتٍ مستقبليةٍ بشأن السلام، ويفرض شروطاً أفضل للقضية الفلسطينية. مما يُذيب القلبَ كمداً أن أعراض المسلمين في غزة تُنتهك، وتنادي الحرائر، فلا يُجيبهنَّ المعتصمُ ولو بكلمةٍ، لكن شعوب أمتينا الإسلامية والعربية تُلبي نداءاتهنَّ بما تستطيع، وتغرس ثمرة فلسطيننا في نفوس وعقول وأرواح الأطفال والشباب، وترويها بالحب والإيثار، وستنبت فيها عشرات ملايين أشجار الكرامة والفداء. كلمة أخيرة: من الجُرحِ ينبتُ الأمل، ومن الصمود والشهادة تولد فلسطيننا وتكبر بعزةٍ وإباءٍ.