12 سبتمبر 2025

تسجيل

أين عيناك يا صلاح الدين؟

17 مارس 2024

على جواده الأشهب، بدا صلاح الدين شامخاً بإيمانه، مستبشراً بنصر من الله تعالى، ناظراً بفخرٍ إلى جيشه المحيط بمدينة القدس، يرنو إلى قبة الصخرة والمآذن الحزينة داخل أسوار المدينة التي دنَّسها الصليبيون طوال ثمانية وثمانين عاماً. كان يرى بعيني قلبه أطيافَ الرسل والأنبياء، عليهم السلام، ويلمح بداية عروج الحبيب المصطفى، ﷺ، إلى السموات العُلا، ويسمع أصوات مئات آلاف الشهداء، الذين ذُبحوا داخل القدس وحولها، تناديه لتحريرها، وتنبض في قلبه قلوبُ عشرات ملايين المسلمين الذين يدعون الله له ولجيشه بالنصر المؤزر. قبل ثلاثة أشهر، في 25 ربيع الآخر 583 هـ / 4 يوليو 1187 م، قاد صلاح الدين المسلمين في معركة حطين التي شهدت انتصارهم العظيم على الصليبيين، ثم انطلقت جيوشه تُحرر المدن الساحلية من بيروت حتى عسقلان وغزة، فتم له قطع الإمدادات عن مملكة الصليبيين في القدس. وحين بلغه تحرير عسقلان، استبشر خيراً لما جاء عن النبي، ﷺ، أنه قال: (إنَّ أفضلَ جهادكم الرِّباطُ، وإنَّ أفضلَ رباطكم عسقلان)، فأعطى الأمر بالتوجُّه لتحرير القدس، واندفعت جيوشه كطوفانٍ من الإيمان والعزيمة والنخوة والكرامة، تهزُّ تكبيراتها الكونَ، وتُزعزع أفئدة الصليبيين، حتى حاصرت المدينة المقدسة في 15 رجب 583 هـ / 20 سبتمبر 1187م. طوال اثني عشر يوماً، لم ينم صلاح الدين، إذ كان يُشرف على تنفيذ الخطط العسكرية، ويحرص على تأجيج جذوة الحماسة في قلوب جنوده، ويشارك الجرحى منهم مواجعهم ويُخفف عنهم بالحديث عن قُرب موعد النصر، وعن الحياة عند الله تعالى لمن تُكتب له الشهادة. وكان قلبه يذوب فخراً وسعادةً بهم؛ فقد جمع الإسلام بينهم، فهم عربٌ وكُردٌ وأمازيغُ ونوبة وسواهم من قوميات ما كان لها أن تجتمع إلا في ظلال الحق، وفي أنوار الدين الحنيف. وفي 27 رجب 583 هـ / 2 أكتوبر 1187 م، لم يجد الصليبيون بُداً من الاستسلام، فدخلها المسلمون مكبرين مهللين، وتدافعوا نحو المسجد الأقصى يطهرونه من الدنس، ثم يسجدون داخله وعلى التراب الطاهر حوله، وحين رأوا صلاح الدين يدخله، صمتوا كأن على رؤوسهم الطير، وتعلقت عيونهم بوجهه المشرق بنور الإيمان والتواضع لله، واهتزت قلوبهم حين سجدَ شكراً لله، ثم عانقت تكبيراتهم تكبيراته، وأحاطت بهم ملائكة الرحمة المبسوطة أجنحتها على الشام، كما أخبرنا الحبيب المصطفى، ﷺ. في ذاك الزمان، لم يواجه صلاح الدين الصليبيين وحدهم، وإنما واجه الغرب، كله، الذي كان يدعمهم بالرجال والسلاح والمال وبآخرين كانوا يعملون لصالحهم في بعض ديارنا العربية. لذلك، أدرك أن الحرب معهم ليست معركةً واحدةً، ولا مقارعة بالسلاح فحسب، وإنما هي حروب متتالية في ساحات الوغى يتزامن معها حروب طاحنة تستهدف النهوض بالأمة وتوحيد صفوفها؛ وبدأ بنفسه، فكان القدوة لها في سيرته العطرة، وحرصه على العدالة والحق، ورَفْعِ راية الجهاد. اليوم، يزورنا صلاح الدين وجنوده، فها هم أحفاده وأحفادهم يبنون صروح المجد والعزة ببطولاتهم وثباتهم في غزة هاشم، ويكتبون بتضحياتهم صفحاتٍ جديدةً في تاريخنا العربي المعاصر. وهم مثله في إعدادهم للمعارك، فقد كانت غزة الأقل عالمياً في مستوى الأمية، والأعلى في الدرجات الدراسية العليا كالماجستير والدكتوراة في مختلف التخصصات العلمية والأدبية. وكان الموقع الإلكتروني للجامعة الإسلامية فيها مرتكزاً للطلاب العرب في الحصول على مراجع حديثة من خلال الدراسات والأبحاث التي تنشرها. هذا الأَلَقُ الذي تميز به أهلنا الفلسطينيون في غزة الحبيبة، يسعى الصهاينة لوأده بالمذابح والتدمير، لكنهم سيُهزمون، بإذن الله، وسينتصر أحفاد صلاح الدين. من الأمور الملفتة للنظر، أن الرحمة التي وضعها الله في قلوب المسلمين تنتقل عبر الأجيال، فقد كان صلاح الدين والذين معه رحماء بالصليبيين، فلم يعاملوهم كما فعل الصليبيون مع أهالي البلاد التي احتلوها بالمذابح الهائلة وسفك الدماء. والأمر نفسه، نجده اليوم في كرام أمتنا في غزة الحبيبة، الذين تحدث الأسرى والأسيرات عن رحمتهم بهم، مما رفع من درجات الوعي العالمي بسماحة الإسلام، وسمو أخلاق المسلمين. كلمة أخيرة: لن تموت أمتنا الإسلامية العظيمة، ولن تنكسر رايات حضارتها وإنسانيتها، ففيها ملايين صلاح الدين وعز الدين القسام وأحمد ياسين، وفيها مئات الملايين ممن ترحل قلوبهم إلى القدس كل يوم لتعانق المدينة المقدسة