15 سبتمبر 2025

تسجيل

من الشهادة يبعث النصر

24 مارس 2024

سمعت جَنى، ابنة الأربعة عشر عاماً، صوت أمها المملوء وجعاً وعذاباً، وهي تهمس في أذنها بأعذب العبارات، فحاولت أن تفتح عينيها لتراها، لكنها عجزت، وأرادت أن ترفع يديها لتتلمس الوجهَ الحنونَ، فلم تستجيبا لها، وجاهدت آلام الجوع الذي افترس جسدها وحوَّلها إلى هيكل عظمي، لتقول لأمها إنها تحبها، إلا أن الجوع لم يترك فيها طاقةً لذلك. وشعرت ببرودةٍ تسري في أوصالها، فانتفض جسدها المُنهَكُ، وفتحت شفتيها بصعوبةٍ، ونادت بصوتٍ فيه حشرجة الموتِ: يا الله.. يا الله، ثم فتحت عينيها وابتسمت لأمها وكأنها تودعها وتطلب منها ألا تحزن، قبل أن تغادرها الروح لتنضم لقوافل شهداء غزة هاشمٍ الأحياء عند ربهم. وكأن لا شهداء في غزة يرتقون إلى الله ذبحاً بالسلاح والجوع، ولا ثكالى ولا أيامى، ولا رجالاً يدافعون عن كرامة وعقيدة ووجود الأمة كلها، فيخرج علينا رجالٌ يتهمون المذبوحين بأنهم السبب في وَضعِ السكين على أعناقهم، ويُفسِّقون الأبطالَ الذين يواجهون الصهاينة بأبسط أنواع الأسلحة مدعومين بسلاح الإيمان بالله وحده، بعدما تجبَّرَ الغريبُ عليهم، وأنكرهم الأخ الشقيق. ثم تتعاظم المأساة، فينشغل الناس بمسلسلٍ تافهٍ، متهافتٍ، لا صلة له بالوقائع التاريخية، ينطق الممثلون فيه باللهجة العامية الركيكة، وحتى اسمه غير صحيح نحوياً: الحشاشين. وكان ينبغي في هذا المسلسل أن يطرح صورة المسلمين في عصر طائفة الحشاشين في أروع تجلياتها، بدلاً من التركيز على تشويه صورتهم وعقيدتهم. واستكمالاً لهذا الانحدار، ينشغل كثيرون ويتفاعلون مع قولٍ لعلي جمعة بجواز ومشروعية العلاقة بين الشاب والفتاة إن كان أهل الفتاة يعلمون بها، وكأن لا أخلاق ولا قيم في مجتمعاتنا، وكأنَّ جنى وأترابها ليسوا بشراً مسلمين قد ذُبحوا أمام عيني الشيخ المشغول بالجدال حول تحليل المحرمات بدلاً من الدعوة لنصرتهم والذود عنهم. هذا الجانب المظلم، ليس هو الصورة الكلية لمعركة طوفان الأقصى، فهناك جوانب فيها أنوارٌ ما كان لها أن تتلألأ لولا مواكب الشهداء المزدانة بها غزة. وتخبرنا هذه الأنوار أن الأمة في وادٍ وهؤلاء النفرُ صانعو التفاهة في وادٍ آخر. أولى تلك الأنوار، هي أن فلسطين أصبحت قضية الأمة العربية الإسلامية، بعدما كاد ذكرُها يندثر، ولم يعد الناشئة والشباب يعرفون شيئاً عنها. فقد كان طوفان الأقصى الشرارة التي أحيت فلسطين في قلوبهم وعقولهم، وهذا أمرٌ ذو أهميةٍ عظيمةٍ، لأنهم الجيل الذي سيدير شؤون الأمة مستقبلاً، وستعيش أرواح صلاح الدين وبيبرس وعز الدين القسام في قلوبهم، ويحيا طيف أبي عبيدة ورفاقه في نفوسهم. ثاني تلك الأنوار، أن في الأمة علماءَ رجالاً لا يخشون في الله لومة لائم، كفضيلة الشيخ أحمد الخليلي في عُماننا الحبيبة، الذي بات الجميع ينتظرون تصريحاته حول ما يجري، ويرون فيه طيف ابن تيمية والعز بن عبد السلام، رحمهما الله. ثالث تلك الأنوار، هو أن الأمة، تنتج فناً حقيقياً لا صلة له بالقنوات التلفزيونية الرسمية التي تقول عن الشهداء إنهم قتلى. فمن كويتنا الحبيبة، أطلق شابٌّ مبدعٌ أغنية: فلسطين بلادي التي يغنيها الجميع بحماسةٍ منقطعة النظير. وكذلك، نتذكر أهازيج أهلنا في مغربنا الحبيب وكل ديارنا وهم يغنون لفلسطين وغزة في الملاعب والساحات. وفي قطرنا الحبيبة، تهمس فلسطين في أسماع أرواحنا بأنشودةٍ جميلةٍ قصيرةٍ قبيل الإفطار من خلال التلفاز، وكأنها نسمةٌ عليلةٌ تدفعنا للدعاء لغزة وكرام أمتنا فيها. أما أروع تلك الأنوار، فهو التغير الهائل لصالح الإسلام والمسلمين وفلسطين في المجتمعات الغربية التي كانت دولة الاحتلال صنماً مقدساً فيها. ونحن لا نقول إن ذلك سيؤثر سريعاً في سياسات الدول الغربية، لكنه سيُسهم على المدى البعيد في تحطيم الصنم، والدفع نحو اتخاذ سياسات متوازنة نسبياً تجاه القضية الفلسطينية وكل قضايا أمتنا. كلمة أخيرة: الثبات الأسطوري لكرامنا في غزة هو نصرٌ عظيمٌ في ذاته؛ لأنه أكَّدَ عَظَمةَ الإنسان العربي الفلسطيني، فكأنما هو قادمٌ إلينا بعزيمة وإيمان الصحابة، وتحت رايات المجد والخلود.