13 سبتمبر 2025

تسجيل

ما الذي نعرفه عن الذاكرة؟

29 نوفمبر 2020

"إن القول عن الذاكرة قديمٌ، ومتقطّع، ويأتي صوته حاداً أحياناً، يكشف عن الظلال التي تحيط بها وتُخفي جوهرها، وأحياناً، مرتعشاً، متهدّجاً، كأنّما يُحدّث عن شيء يسكن أحلامه. ثمّة اجتهادات - منذ العصور الغابرة - ولّت اهتمامها بهذه المعضلة، وثمّة ملاحم أومأت إليها، وثمة هواجس أفصحت عنها بإجلال؛ بيد أن تجارب التعبير الإنساني ظلّت تحاول يأساً أن تحيط بها بصورة كاملة، وعلّة ذلك أنّ الذاكرة متفلّتة، عصيّة على القبض، بالقدر الذي - وللمفارقة - بدت فيه ناصعةً، لا شية فيها. ولأن مجاهلها التي طُرقت، تبدو هي الأخرى، تتشكّل من جديد بملامح أخرى، لم تُعرَف من قبل، يصبح النفاذ إلى أعماقها وتلمّس وجهها عملاً أبدياً، تحمله الأجيال على كاهلها، أبد الدهر. إنه عملٌ يتجدد، ويصنع ذاته من جديد، ويستحيل أن نصل فيه إلى نهاية، فهو ليس مرضاً على سبيل المثال بوسعنا أن نجد له دواءً، ولا ظاهرة طبيعية مجردة نستطيع أن نخترع قوانين للسيطرة عليها. تظهر الذاكرة كوعاء للوجود، محشو بكل التجارب التي يخوضها البشر، وشتى التصورات التي يتمثّلونها، وشاهد ذلك هو الفكرة القائلة: إن التفكير خارج الذاكرة شاق، وقليل، وشديد الندرة؛ حيث ينزع السواد الأعظم إلى التفاعل اللاشعوري مع مخزونهم من الصور والأسماء والأحداث والحكايات والأصوات، على نحوٍ يعيد إنتاجها من جديد، دون أن يطرق أصحابها مكاناً بعيداً، إن هذا ومن دون تعميم هو حكاية الوعي ونقيضه؛ وبعبارة أخرى: لهذا هو نتيجة تفاعل الإنسان مع الأشياء التي يعي بها تمام الوعي، بقدر تفاعله مع الأشياء التي سقطت من وعيه. ولقد تبدو الذاكرة كزمنٍ لا ينقضي أجله، بل زمنٌ متعالٍ يتولّد منه الزمن المحسوس الذي نعيش فيه، ثم يبدو أن الزمن المحسوس هو من يحيك الذاكرة وينسجها، وفي ظل هذا التواطؤ المشترك تصبح العلاقة جدلية ومتقاطعة، كل واحد منهما يجد في الآخر نفسه، وكل منهما يخلق غيره، وكل منهما لا يوجد إلا في مرآة الآخر، وكلنا لا ندري -لو نظرنا- ما الأول وما الثاني؟ وما الظاهر وما الباطن؟ وأيهما المبتدأ وأيهما الملتحق؟ أزمن بلا ذاكرة؟ أذاكرة بلا زمن؟ إن هذا الترابط الوثيق بينهما، يلفت انتباهنا إلى المشهد الأوسع لرحلتنا المُرهَقَة في مسرى الوجود، وهي أنها خيط من الذاكرة، مُسجّى على قارعة الزمن. الذاكرَة في وجهها القريب، الدان: سعيٌ دؤوب بين شروق وغروب، يركض الإنسان في منتصفه كي لا يحترق بجمرها، ولا ينطفئ بدُهْمِها؛ وفي وجهها الآخر، القصيّ، الناء: حالٌ مُتجاذبةٌ بين الماء والظمأ، يرد عليها حداً يكاد فيه أن يغرق، ويبعُدُ عنها حداً يكاد فيه أن ينضب، ولا شك أن الرُواء حاجة، والعطش حاجة أيضاً، في رواء الذاكرة: أُنسٌ وقرار وسكينة، وفي عطش النسيان: تخفّفٌ وعِتْقٌ وسلوّ. وهذان الملمحان هما لبُّ الفكرة القائلة: إن النسيان ليس إلّا جزءاً من الذاكرة. وليس النسيان هو الذاكرة حين تغيب، فحسب، بل هو الذاكرة التي تأتي في محل ذاكرةٍ لم يُكتب لها الحضور، إنه الذاكرة المضادة لكل ذاكرة، إذ ليس ثمّة نسيانٌ لشيء إلا وهو تذكّرٌ لشيء آخر. تتراوح الذاكرة بين السَعَدِ والبَؤُس، تنقسم بين هذا وذاك، تميط اللثام عن لحظات طَرِبَة فتحيل العالمَ لضربٍ من الانتشاء، وتلقي الضوء على مشاهدَ كَمِدَة، فتصبح الأشياء محضَ رِثاء، تزاوج بين النقيضين وتلقي سحرها، وتفرّق بين المؤتلفين لتنصب عرشها، وأي مفرطٍ في حال واحدة من أحوال الذاكرة، ليس بعيداً عنه الهلاك، فكما أن غلو الحزنِ قاتل، فإن إسراف الفرح مميت. ولكن الذاكرة التي أحاول القبض على معناها الخالد، ليست بهذه الصورة البسيطة الوادعة، التي يمكن أن نحصرها في اتجاهين، وأن نخلع عليها مجرد قولين، ولكنّها فيضٌ من التجدد السخي، والتنوّع البهيّ، فهي تهبط -تارات عديدة- كبحثٍ عن حنينٍ مجهول مُتوارَ، عن وجهٍ غائبٍ مُحتجب، وهكذا في مَنزَعٍ تتجرّد فيه من أية حتميّاتٍ ثنائية، بل أشبه ما تكون ببابٍ مفتوحٍ على عالمٍ لا نهائي من احتمالات الحيرة والرغبة والشوق والترقّب والقلق".