10 سبتمبر 2025
تسجيلكانت أمنية للبعض سجلها القرآن عبرة وعظة؛ واليوم نحن أحوج ما نكون إليها، تبدأ القصة بوعد الله لهم يوم بدر بالظَّفر بإحدى الطائفتين: العير وما تحمله من غنائم وأرزاق، والنفير وهو قتال العدو وما يتبعه من تضحيات. أرادوها أو أحبوها ظفرا بغير قتال، وأراد الله غير ذلك (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ* لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ). لقد أرادها الله ملحمة لا غنيمة؛ ليحق الحق ويثبته، ويبطل الباطل ويزهقه، ويتخذ من المجاهدين شهداء يرفعهم بها. فأين ما أراده المسلمون مما أراده الله لهم؟ لو كانت ذات الشوكة لهم؛ لما كانت إلا قصة غنيمة وفقط! لكن (واقعة بدر) شأن آخر! نصر حاسم وفرقان ظاهر، وخلود دائم. ولو تركنا بدرا ورحلنا إلى تاريخ أمتنا لوجدنا الغاية ذاتها، وإن تغايرت الأزمنة واختلفت الأحداث! من ذلك قصة الأحزاب حين حوصرت المدينة بعشرة آلاف مقاتل مشرك من قريش وغطفان وبني سليم وغيرهم، وكان الصحابة ثلاثة آلاف لا أكثر. هي معركة غير متكافئة لا في عتاد ولا عدد، فكان لابد من خروج بعض المتأسلمين، ليبدأ التأطير والتفاصح والتعالم؛ لم يدخل هؤلاء حربا مع عدو أكبر حجما منهم؟! هذا كان سؤالهم! وكأن العدو ليس في ديارنا! وكأنهم ليسوا محتلين باغيين!. حوصر النبي وأصحابه شهرا كاملا، وكانت أياما شديدة القسوة، وكل يوم تزداد شدة بعد شدة، ومعسكر التخذيل لا يترك مجالا للتفاصح إلا وبرز، حتى كانت تلك المصيبة الأدهى، فقد خان يهود بني قريظة الذين يسكنون الجنوب الشرقي للمدينة عهدهم مع النبي، وتلك خيانة شديدة الخطورة عميقة الأثر! التقى حيي بن أخطب بزعيم بني قريظة كعب بن أسد، واتفقا على الغدر، ليس فقط بفتح باب للمشركين لدخول المدينة، بل ولتجهيز فرق عسكرية تقاتل معهم. هي طامة كبرى زلزت المسلمين زلزالا كبيرا مع هذه الأحداث الجسام: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}. لقد كان هذا الزلزال مقصودا ومرادا؛ لأن الله لا ينصر الأمة الثابتة إلا بعد أن يخلصها من شوائبها فتتأهل للنصر المستحق، لذا كان الانتصار الأول: تنقية الصف المسلم منهم: {وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا} ثم بدأ التسرب العملي {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}. وما علم هؤلاء أن المقصود خروجهم فقد حان أوان النصر! بحبل من الناس وحبل من الله كانت البداية: -نعيم بن مسعود رجل منهم يسلم فجأة ويخبر النبي أنه يريد الإعانة، فيقول له: «إِنَّمَا أَنْتَ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَخَذِّلْ عَنَّا مَا اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ». ذهب-مخفيا إسلامه-إلى بني قريظة وقال لهم: قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم. قالوا: صدقت. قال: فإن قريشًا ليسوا مثلكم، البلد بلدكم، فيه أموالكم ونساؤكم وأبناؤكم، وإن قريشًا قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا لحقوا ببلادهم وتركوكم ومحمدًا، فانتقم منكم. فقالوا: وما العمل؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا: قد أشرت بالرأي. ثم ذهب إلى قريش وقال لهم: تعلمون ودي لكم ونصحي لكم. قالوا: نعم. فقال: إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمدٍ وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم. أرسلت قريش وغطفان إلى اليهود: إنا لسنا بأرض مقام، وقد هلك الكراع والخف، فانهضوا بنا حتى نناجز محمدا. فأجاب اليهود: لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن. فقالت قريش وغطفان: صدقكم والله نعيم. فبعثوا إلى اليهود: إنا والله لا نرسل إليكم أحدا! فقالت اليهود: صدقكم والله نعيم. فدبت الفرقة بين الفريقين، وكان هذا أول الفرج. ثم جاء الحبل الثاني: ريح شديدة قاسية لم تترك في معسكر أهل الكفر خيمة إلا اقتلعتها، ولا قِدرًا إلا قلبته، ولا نارًا لهم إلا أطفأتها! حتى اندحروا وعادوا:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}. كان يمكن أن يسلم نعيم أول الحرب، وأن تأتي الريح من اليوم الأول، لكنها إرادة الله يمتحن بها الناس، فيميز الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق. واليوم نرى ذات الحصار على أهلنا في غزة، ونرى منافقين عصرنا، ونرى المتخاذلين، امتحان للجميع ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيى عن بينة، والله ناصر دينه ولو كره الكافرون.