13 سبتمبر 2025
تسجيلقبل أيام قليلة انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي صورة طفل سوري قضى جوعاً، وجاء في وصفه: "هذا الطفل له اسم، وسيم زكور، يعني هو ليس قطّاً صغيراً نفق أمام حاوية زبالة، نمرّ أمامه دون إعارته أي انتباه، هذا طفل حملته أمه تسعة شهور، وطيلة هذه الشهور تكلمت هي ووالده عنه، ولا أشك أنها تمنت أن يكون صبياً، ووسيماً. وعندما قدم للحياة، كانت له نهفات الأطفال، ومشي خطوته الأولى ولفظ كلمته الأولى وكانت تلك وقفات للعائلة وسِيَر تروى للأقرباء.... وسيم قد يكون ابني أو ابنك، فهو ليس بشحاذ امتهن التسول، هو ابن لعائلة سورية متوسطة.. تحولت إلى أشلاء بين ليلة وضحاها، وتحول وسيم إلى ملاك أبيض يحمل كيساً أسود. لم أنشر هذه القصة لنذرف الدموع عليها سوية، بل لأقول لكم بأن وسيم أشرف من أن يعيش بيننا. فأعاده الله لروضته لأننا خنّا الأمانة". كانت "وسيم من الأطفال" مأثورة طلاب سوريا ومعلميها والقرّاء بشكل عام، لشاعر سوري راحل هو بدوي الجبل، وقد قالها في رثاء ابنته التي ماتت أثناء ولادة ابنها (حفيد الشاعر) فكتب بدوي الجبل قصيدة تعدّ من كلاسيكيات الشعر المعاصر، فغنّى سيد مكاوي مقاطع منها، وانتشرت في الصحافة الأدبية، وثبتت بعض أبياتها في المنهاج السوري، وظلت صامدة رغم تغيّر المنهاج، فقرأناها صغاراً، و درّسناها لطلابنا ونحن معلمون: وسيم من الأطفال لولاه لم أخف على الشيب أن أنأى وأن أتغربا يزفّ لنا الأعياد عيداً إذا خطا وعيداً إذا ناغى وعيداً إذا حبا كطير القطا لو أنّه راح صادياً سكبت له قلبي وعيني ليشربا ولكنّ وسيم زكريا كان أمامنا على بعد مجاعة، فلا عيد إذا خطا تحت القصف، ولا عيد إذا ناغى تحت البرد، ولا عيدا إذا حبا جائعاً متضوّراً. وسيم زكريا عار السوريين جميعاً، في كلّ مكان. وهذا هو سؤال الثورة والحرب. هابيل جديد عجز قابيل عن مواراة سوءته، ولا أدري كيف سمّاه قاتلوه في المعجم السوري الجديد: "استشهد-قتل-فطس-نفق..".، فالكراهية العمياء لم تعد ترى في الآخر إلاّ دريئة صمّاء، ورقماً في غنيمة يومية، وعدداً في حصالة الموت المجّاني. كل هذا وسكان القصور والفنادق يزاودون على الاحتراب، دون أن يشدوا بطناً على جوع، أو يستظلوا بجدار بعد قصف، أو يقفوا على حاجز، أو يشدوا خيمة بعد عاصفة، أو ينزح لهم قريب، أو يقتل منهم ابن. سكان القصور والفنادق طلاب سلطة، ووسيم كان من الأطفال.. أطفال سوريا، كان له أم جديرة بشاعر يرثيها، وكان له وطن جدير بالمحبة والحرية والرؤى الخضراء، دون أن يقرأ الملل والنحل، وجغرافيا الأحقاد. كان يعرف أن أطفال الحروب هم الخسارة التي لا يلتفت إليها أحد، منذ زهير الذي تحدث عن الحرب التي تلد غلماناً مشؤومين، وأرنست همنغواي، وغيرهم.. ليس وسيم الطفل الأول في تراجيديا اللعنة، ولكن يكون الأخير بالتأكيد، ولكنه صار رمزاً يستصرخ ما تبقى من وجع الإنسانية في ذواتنا، وسيم؛ محمد الدرّة الجديد، الذي اختزل نص المعاناة السوري. ففي بداية الثورة كنا نخاف على الناس من بطش النظام، وبعد عسكرتها خشينا على سوريا من التقسيم، وبعد النزوح صرنا نشعر بالذل ونحن نرى أخواتنا وأمهاتنا في رحلة السبي إلى المجهول، ثم شعرنا بالعجز لأننا لم نعد نتحكم إلا في مشاعرنا، ولكن بعد هذا المشهد فلم نعد نشعر إلا بالعار.