10 سبتمبر 2025

تسجيل

عن أي مصر يتحدثون!!

29 أكتوبر 2013

تقترب الحالة السياسية في مصر من صناعة إقطاع سياسي جديد، تحولت فيه الثورة والسياسة إلى أملاك توزع تحت عناوين ومسميات يجري استحداثها دون سند من المنطق أو العقل أو الواقع. الإقطاعيات تمتد من الشوارع إلى الميادين والتواريخ وشبكة الإنترنت والفضائيات والصحافة، تأخذ منها الاسم، وختم الحصانة، دون أن يكون لها مضمون، أو انتماء اجتماعي، ولكن الصراعات اختزلت في عناوين الشهداء والمصابين والديمقراطية والشرعية. وكون الإقطاعيين الجدد طبقة عازلة بين الشعب وبين غايات يمكنها أن تقترب به من تحقيق العيش الكريم. ولم تتوقف حدود الاقطاعيات علي ما هو سياسي، أو قانوني، أو حزبي، وتجاوزت الكراسي المنشودة والأطماع إلى إقطاع من لون جديد تجاوز حدود الكهنة والكهانة إلى الولاية علي امتلاك الدين. وصار الدين إقطاعية واسعة يجري تقسيمها على ألوان متعددة من الكهنة، أدت إلى احتمال هادم للقيم يجوز أن نصفه بالتصحر أيضا. ونظرة مباشرة إلى شعار ثورة يناير الذي أبدعه العقل الجمعي الشعبي في ثلاثية "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، نجده قد تواري وراء عناوين باهتة، أخذت من الوقائع والأحداث بديلا للغايات والأهداف. تحدد الأمم ما يطلق عليه الأهداف الغائية، أو "Grand strategy"، وهي تمثل رؤية الأمة لذاتها، وجودها، تاريخها، نطاقات أمنها، ونفوذها، ومصادر القوة والبقاء لديها وهو ما يطلق عليه أمنها القومي، وهذه الرؤية تجسد وحدة الأرض والبشر، وتجسد حق الحياة والوجود والأمن والدفاع عن النفس، لا تستبدل داخل الوطن بشرا أو أمكنة بديلا سواها، طالما أن الجميع قد امتلك هذه الرؤية للأهداف الغائية، وتصبح من بعد ذلك الاستراتيجيات والتكتيكات محل الجدل والاتفاق والاختلاف حسب معطيات واقع يجري التعامل معه، ومهما تغيرت سلطة الحكم فهو تغيير في أساليب الإدارة وليس في تحديد الوجود من عدمه. تبقي الأمم ساعية إلى ما يطلق عليه الاستقرار ولا تبلغه دون أن تحدد إستراتيجيتها العليا أو أهدافها الغائية، أي تحدد ماهيتها، وقد يمر سعيها هذا بحالات متعددة من الجل والحوار وقد تصل إلى الحرب الأهلية، فالأمر ليس أفكارا على ورق أو أقوالا على ميكروفونات ولكنه توازن الإرادات والوعي والقوة، وما دون تحقيق هذا التوازن هو حالة من الميوعة والسيولة لا تحقق وجودا ولا تستطيع الحفاظ علية، هي حالة علمية أن لم تتكامل لها شروط الوجود، تصير أقرب إلى حالات الوهم وأحلام اليقظة العاجزة. وعالم اليوم يتسم بسرعة الحركة والتقدم ولا ينتظر قطار الرحمة فيه أن يلحق العجزة بعرباته. ووجود الأمم رحلة فكر وعمل وجهد شاقة ومستمرة وليست محطة وصول. والثورات في التاريخ الإنساني تحاول أن تختزل الزمن، وأن تحقق طفرات، ولا يقتصر تعبير الثورة علي الصراع الاجتماعي والسياسي داخل المجتمعات، بل تجاوزها إلى ما يحققه العلم من طفرات، سواء التحول من الزراعة إلى الصناعة، أو ثورة الاتصالات، أو ثورة الجينوم والفيمتو، أو ثورة النانو، او ثورة ما تكاد أن تحقق إنجازا حتى تتجاوزه وهي ثورة عالم الكمبيوتر والمعلومات. تغير وجه الأرض والعلاقات وصار مجرد الحديث عما كان هو فقدان للوقت، فما بالنا وهناك من يحاول أن يعيد حركة الزمن إلى الوراء، انه يتحرك ضد قوانين الصيرورة للوجود الإنساني فوق الأرض. ومن هذه المفارقة يتحقق حتمية انتصار الثورة، ضرورة التقدم للبقاء عجلة زمن متسارعه تختزله، وقوي الردة تحاول أن تضع العصي بالواليب، ولكن قانون البقاء أكثر قوة فهو ناموس سماوي لا يستطيع الجهل والعجز الحيلولة دون تحقيقه للتطور، واختزاله للزمن. تحول الثورة إلى إقطاعيات، والادعاء بالأحقية في امتلاكها، هو الردة. المفارقة في حالاتنا العربية، إننا نتكلم عن الثورة، ونحيلها إلى أسماء وأشخاص وليس إلى مضمونها، ونحيلها إلى حالة ثأر ولا نفهم أبعاد القوى الحاكمة التي يجوز أن تقتتل لتقيم التوازن الاجتماعي، ونحيلها إلى نصوص كانت أو صياغات نتهافت عليها لكسب يوافق حالات العجز والتردي التي نثور عليها، فنزيد الثورة نار الثورة تأججا، وبدلا من أن تصبح نار الثورة أداة إنضاج لحالة الوجود، تصبح محرقة للوجود ذاته. المواجهة مع إقطاع الثورة قائمة ومستمرة، ولا بديل عن انتصار الضرورة الثورية في التعجيل بتحقيق متطلبات الوجود والبقاء. تحويل الثورة إلى ثأر للشهداء أو المصابين، صورة من الوجود الإقطاعي الجديد. الانقلاب على حق العمال والفلاحين في الوجود بفعل القانون والدستور، هو إقطاع جديد. تحويل الثورة إلى احتفاليات بالتواريخ والأحداث، هو إقطاع جديد. تراكم الأسماء للأشخاص أو الكيانات، هو إقطاع جديد. استعادة الخوف ليحكم المسار والسلوك الشعبي، هو إقطاع جديد. اعتبار أن الثورة حركة بالشارع، ومظاهرات، هو إقطاع جديد. ثم تحويل الفعل الثوري إلى مجرد ملكية تتنازعها الحناجر، هو إقطاع جديد. ويبلغ الخطر مداه فيما يتخلق من إقطاع تلك الحالة من الارتماء في أحضان الخارج، فتارة يصبح الخارج مصدر القيم، وكيف يمكن أن تتفق قيم خارج الأمم أن لم تشملها ذات المرجعية المطلقة، أو هو الشرطي الراعي للشرعية! كيف لم تكن عقائدنا مرجعية لمعني حق الإنسان في الوجود؟، وإذا فشلت العقائد التي نؤمن بها أن تحدد حقوق الإنسان في يقيننا وتلزمنا بها، فهل نحتاج إلى عصا الأجنبي لإعادة تربية أمة تحاول أن تحقق وجودها وتدافع عن بقاءها؟ وكيف والمصالح متباينة، أن نعيش عبيد إحسانات الخارج، فهل تحول العالم إلى مؤسسة اجتماعية، هو يعمل ويدفع ضريبة التقدم، ونحن نقبع تحت مائدته راجين الإحسان والرحمة، فكيف يتفق هذا مع مطلب الحرية. ندين في التاريخ تعيين رقيبين من أصحاب الديون على مصر، فكيف ونحن نتحدث عن بناء حضاري لأمة ووطن نستدعي الخارج رقيبا على الشرعية؟ ثم لنري الإقطاعيين الجدد تحت عناوين الثورية والاشتراكية والليبرالية، وهم يفسرون الدولة المدنية بانها ليست الدولة الدينية ولا هي الدولة العسكرية؟، وكأننا ننسي أن الدولة المدنية هي دولة يحكمها القانون والدستور، ثم نغوص في رمال متحركة حول الدين وحكم العسكر، وندعي وبلا خجل أن ستين عاما كانت حكم عسكر، وننسى حقيقة ما جرى قبل الستين عاما وخلالها، ما تحقق وما لم يتحقق؟ الأيام الماضية حضر أمامي مشهد من فيلم "وا إسلاماه"، ومبعوث التتار يدخل قاعة الحكم في مصر بعد أن قام جواسيسه وعملاؤه بإعداد الأرض لقدومه وهو يقف متسائلا: "لمَّا أحب أكلم شعب مصر أكلم مين؟"، فالصبية صاروا قائمين على تقييم الوطن وحركة الشعب، والرجال الذين فتح لهم الشعب قلبه يرتحلون تاركين خلفهم تلالا من علامات الاستفهام. إقطاعيون جدد ظهروا يتحدثون عن كيف نواجه الإرهاب في سيناء، ولكنهم في الوقت ذاته يرقصون علي جثة الثورة، ويدعون أن 25 يناير كانت نكسه. وعلى الضفة الأخرى إقطاعيون من لون آخر يهاجمون ثورة 30 يونيو بأنها الباب الذهبي لعودة الفلول. ولون آخر من الإقطاعيين يهتفون "لا عسكر ولا إخوان" وهم لم يقدموا لنا بطاقة تعارف بماهيتهم ومبررات وجودهم. ويخرج علينا الإقطاع الأسود، إقطاع قرر أن الدين ملك له، هو يملك الأرض وما عليها ومن عليها لأنه هو الكاهن ويملك صكوك الغفران، وكأننا في حاجة إلى دهاء اليهودي الذي اشترى كل صكوك جهنم فبارت صكوك الغفران على بائعيها. فاقت حركة الشعب في يونيو ويوليو 2013 دهاء اليهودي وخبثه، فبارت صكوك الغفران علي الإقطاع الأسود. لم يستسلم الإقطاع الأسود، ولم يستوعب انه داخل وطن وأمة لها وجودا هي تعاود تنميته والحفاظ علي بقاءه، ويخرج إلى الشوارع، وأحال العلاقة العظيمة بين الحركة الطلابية وكفاح الشعب من أجل الحرية والتحرير، إلى ظاهرة بلطجة سياسية، تخفي فيها رؤوس الإقطاع الأسود نفسها عن الأعين، وتدفع بفلذة الأكباد إلى الشوارع، ليست ظاهرة تعبير، ولكنها أدوات فوضي. كشفت تحركات الإقطاع الأسود كل احتمالات الريبة والشك التي تأكدت خلال عام من حكمه لمصر، فهو ضد الأزهر، وضد الجيش، وضد الشعب، ومع الشرعية التي نالها بقسط وافر من التآمر والدعم الأمريكي، فكيف به يتوقع قبولا من الشعب ليحيا فوق هذه الأرض معه ويبني معه المستقبل. إن ما تتعرض له مصر الآن، يحتاج إلى كل اليقظة، لأن الإقطاع له امتداداته الخارجية، ونزوعه إلى خلق الفوضى باتت أهدافه مكشوفة. الأيام القادمة تتحرك فيها قوافل الإقطاع الجديد الذي انقض علي الثورة، كل منهم وفق أوهامه، غير عابئ بوطن او امة او مستقبل. إننا في حاجة للقبض على الحقيقة كما القابضين علي الجمر، أن الشعب الذي خرج على مدى ثلاثة أعوام وصبر وصابر ورابط، ليس لديه ما يخسره، ولن تأخذه رجفة أو تردد أن استمرت محاولات وأد أهدافه الغائية.