11 سبتمبر 2025
تسجيلالقيادة تكشف عن نفسها عند مواجهة الأمم للتحديات الخطيرة، ولا ينتجها ضجيج بورصة الأوراق السياسية.بينما كان محمد نجيب يطوف مصر بسيارة وحوله بعض من الضباط ملوحا للجماهير التي تلتف من حوله، كان عبد الناصر يجلس في مكتبه بمجلس قيادة الثورة يراجع خطط التغيير لتتحول "حركة الجيش المباركة" إلى "ثورة" غيرت وجه مصر والمنطقة ومازال أثرها يمتد عبر العالم والتاريخ.وبينما كان الضجيج يعلو في مصر حول ديمقراطية الصناديق بعد يناير2011، كان "هو" هناك يدير مصر ويرتب لما تستحقه، وما يجب أن تنتجه ثورة الشعب، ولا أجافي الحقيقة إن قلت إن من أدار المواجهة ضد الثورة المضادة خلال السنوات الثلاث الماضية هو "الأحق" بأن يقود مسيرة البلاد إلى المستقبل.ظهرت صور عبد الناصر في أيدي المتظاهرين، وفي أيدي البسطاء منهم كانت تعبيراً عن مطلب العدالة الاجتماعية والانحياز للفقراء من عامة الشعب، وكانت أيضاً تعبيراً عن الموقف الشعبي ضد الإخوان، ولكن كان هناك من يحمل الصور أو يطبعها ويوزعها في محاولته لإثبات وجوده السياسي دون جهد حقيقي مع القوى الاجتماعية أو امتلاك رؤية شاملة تربط الاحتياجات بخطط عمل، بالنسبة لهؤلاء كانت "صور الزعيم" تعبيرا عن العجز الذي كشفه-فيما بعد-هتاف يسقط حكم العسكر الذي وحد بعض فصائل اليسار واليمين الإخواني الفاشي أو ممن ينفذون أجندة إسقاط الجيش المصري، وربما وجد هؤلاء مبرراتهم في عدد من تصرفات المجلس العسكري السابق دون معلومات مكتملة أو التغاضي عن طبيعة الحدث ومعناه، سواء في وقائع 8 أبريل 2011 أو في واقعة مجلس الوزراء 2011.ولكن غير الطبيعي هو اللغط ممن ينتمون إلى ما أطلق عليه التيار الناصري.انقسم التيار بين وجود شعبي يرى عبد الناصر نصيراً له، جاء من الشعب وعاش له، ورفع رايات الاستقلال الوطني والكرامة والعدالة الاجتماعية، وبين وجود سياسي جعل من الناصرية مبرراً لوجوده الذاتي، وأدى ذلك لتحويل هذا الوجود السياسي إلى مجرد "ظاهرة صوتية" لمجموعة "دكاكين" تنتمي إلى"أفراد" أو "تجارب محدودة" انعزلت عن التواصل مع قوى المجتمع في حركتها نحو التغيير وتحولت هذه الدكاكين إلى بالوعات للتمويل السياسي كما كانت مقبرة لعناصر من الشباب الواعد ولقدرات كان يمكنها أن تنمو وتحافظ على مفاهيم وقيم أرساها عبد الناصر فيما لو توفرت الشروط الصحية لمشاركتها الوطنية. وحاول البعض الحفاظ على نفسه خارج الدكاكين وأن يمسك بجوهر الانتماء. محاولة سرقة الثورة أو العيش الطفيلي على حسابها شملت العناصر السياسية في هذا التيار ومن غيره من التيارات السياسية، كما شملت جماعة الإخوان ونسيت هذه العناصر دلالة تحليل مفهوم أساس حكومة عبد الناصر وهو مفهوم تحالف قوى الشعب العامل الذي يشمل (العمال والفلاحين والجنود والمثقفين والرأسمالية الوطنية)، ولم يكن انضمام الجنود للتحالف ضمن عسكرة الدولة ولكنه كان تحديداً للدور في مهام المجتمع والدولة، سواء الدفاع ضد العدو الخارجي أو حماية الإرادة الشعبية أو ما جرى التعبير عنها بعد ذلك بحماية الدستور.تجارب مشاركات من يعلنون انتماءهم الثوري لهذا التيار جميعها تنتهي عند حد التعايش مع النظام حتى وإن بدا أن تعارضا ما بينهما، فالتعارض هذا لم يكن صراع إرادات ولكنه كان مجرد كلام في مواجهة تغييرات مادية تجري في الواقع اليومي. سقط اتحاد العمال، فقد ولد في أحضان السلطة وظل كذلك، وسقطت تعاونيات الفلاحين واتحاداتهم الجديدة بعد ثورة يناير التي سعت أيضا إلى حضن السلطة.غاب المثقفون عن الدور التنويري، وبدت أدوات الثقافة وآلياتها داخل المجتمع غريبة باهتة، وتحللت الرأسمالية الوطنية وانحصرت في أشخاص وغاب عنها دور رئيسي في خطة المجتمع التي اعتبرتها جزءا من موروث مجتمع شمولي وليست المدخل العلمي لمفهوم إدارة الموارد وتنميتها وصار سعيها إلى الكسب السريع والاحتكار وانتقلت إليها كل أمراض الرأسمالية دون قانون يواجه التغول الرهيب على الإرادة الوطنية.ولم يعد هناك ضمن قوى التحالف سوى الجيش المصري الذي احتفظ بتماسكه نتيجة تراتبية سلطة القرار داخله. وتعرض الجيش بعد حرب 1973 لمنعطفات رئيسية فرضت عليه خيارات تؤكد نزول الجيش وقياداته للحفاظ على كيان الدولة والحيلولة دون انهيار الوطن.الأول عندما فرطت "السياسة" فيما أنجزته العسكرية والذي انقلب بعد ذلك إلى اتفاقات ومعاهدات تمنع الجيش عن أداء مهمته في سيناء ومن بعد ذلك وضع سياسة تحجيم القوات والتسريح المبكر للقيادات.الثاني الحيلولة ما بين الجيش والإمكانات العسكرية التي يجب امتلاكها باختيار "السياسة" أمريكا كمصدر رئيسي للسلاح، خاصة أن الوضع الاقتصادي يحول دون توفير التمويل اللازم لشراء الأسلحة، وانعدام الطموح عند صانع القرار، "السياسة تُفرط أيضا"، لدعم محاولات تطوير السلاح التي يقوم بها الجيش. الثالث محاولة الجيش للخروج من تأثير التغيرات الاقتصادية المتلاحقة في المجتمع المصري بامتلاك المقدرات المعيشية لقواته، مضافا إلى ذلك عبء مواجهة التفريط في الأرض والإمكانات قبل الثورة (طريق السخنة – بنك القاهرة) وما جرى خلال حكم الإخوان.الرابع تمثل في موقف من التوريث، والذي كان حلقة الربط بين ثورة يناير2011 وبين الجيش، بالإضافة إلى عقيدة عدم توجيه سلاحه ضد الشعب، وكان المنعطف الأخير هو حالة السيولة التي أعقبت ثورة يناير، حيث أطلق المجلس العسكري السابق كل عناصر الإرهاب من السجون وفتح المطارات لعودة المئات منهم، ثم جاءت نكبة عام الحكم الفاشي الذي حول مصر إلى ملجأ لنفايات الجماعات الإرهابية من جميع أنحاء العالم.ظل الجيش متماسكا وبرزت عقيدته خلال مواجهات يونيو ويوليو 2013 وانتمائه الذي لم يتحدد فقط يومها ولكن الوقائع والحوارات تؤكد أنها تصور حاكم للدفاع عن الأرض والشعب، ظل راسخا طوال الفترة من يناير 2011 حتى يونيو 2013 كما كان رفض التوريث حاكما لموقف الجيش قبل يناير 2011.الثورة مواقف وفعل وتغير في موازين القوة وهنا لا يجب أن نبحث عن رموز للثورة، ولكن نبحث عن استيعاب هذه المعاني والقدرة على إعمالها.الأمم لا تضع إرادتها رهينة التمويل الأجنبي على شاشات الفضائيات ولكنها تخوض مواجهاتها من توفير لقمة العيش إلى الدفاع عن الحياة فوق أرضها، هي مواجهة يومية لتوفير إمكانات الوجود.سقط أدعياء الناصرية وسيبقى انتماء عبد الناصر ونداؤه بالحرية والعدالة الاجتماعية والوحدة العربية خيارا إستراتيجيا للأمة.