10 سبتمبر 2025
تسجيلدارت عجلة استفتاء المصريين على الدستور الجديد، ويركن البعض إلى حسابات نسب الحضور والموافقة للقول بأن الشعب المصري قابل بالدستور ويدعمه وبالتالي قابل بمسؤوليات ما بعد المرحلة الانتقالية، وهو قول يضع قائله في موقف الحكم على الإرادة الشعبية، وكأن الإرادة الشعبية تحتاج شهادة من أحد والحقيقة أن الإرادة الشعبية تحتاج من يملك جسارة استيعابها بعيدا عن الأنا والعجز وادعاء الحكمة التي وضعت الشعب وحتى اللحظة في مواجهة بالدم والصبر وحتى اضطراب الأمل في تحقيق الغايات التي بلورتها حركته منذ يناير 2011، وانتظار النسب المئوية يبدو شرطا يزيد من أعباء المرحلة المصيرية، اللحظة هي لحظة إدراك وعمل وأقصى استخدام للزمن وأعلى اقتصاد للقوة.كلمة الشعب ليست مجرد نتائج الصندوق، فقد جسد الشعب إرادته عبر السنوات الثلاث الماضية ولم يفقد البوصلة، ودفع الثمن ويتطلع للعدل، وإن غاب العدل فلا أشك أنه سيعود ثانية للميدان.الاستفتاء على الدستور هو البوابة التي يدخل منها الشعب إلى اختيار رئيس للجمهورية. فهل الأمر اختيار بين بدائل جرت تجربتها، أم أنه ضرورات تفرض اختيارا؟ وهل الاختيار لموظف بالإدارة الحاكمة لمصر أم أنه اختيار لقيادة؟القيادة مسؤولية تحت المتابعة والتقييم الشعبي حتى وإن مرت لحظاتها الأولى من جهة الشعب في حالة من الاسترخاء واعتقاد أن الطريق قد وجد ربانه، وإذا كان الشعب يحتاج الاستكشاف، فإن القيادة لا تملك ترف الانتظار، سواء جاءت عبر طموح شخصي لا ينفيه أحد عن البشر أو جاءت عبر تقدير للمسؤولية وقرار بالتصدي لها.مناخ الخطر في مصر والدم المسال والاشتباك اليومي، لا يفسح مجالا لانتظار إتمام الاختيار للرئيس الجديد، بل يفرض عليه أن يكشف عن إدراكه للثورة الشعبية، لماذا انفجرت؟ وكيف كانت حالة التصحر السياسي؟ وما أسبابه؟ وكيف هي حياة الإنسان "مخزون الثروة الحقيقية لمصر"؟ وكيف تمكن استعادة الطاقة البشرية لأداء مهام التنمية؟، وكيف له بالتنمية وما هي خياراته السياسية؟ ثم هل الأهداف الغائية للشعب في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية هي قضية انحيازه؟ وكيف؟ وهل الخيارات القومية والعالمية وسط الهجوم الأمريكي والغربي على المنطقة داخل اعتباره؟ أم أنه يدخل إلى الانتماء القومي طرفا يصالح هنا ويصارع هناك؟ وهل يرى الانتماء العربي انتماء إلى خزائن تمنح وتمنع، أم أنه انتماء مصير لا وجود دونه؟، وهل يدرك مصادر الخطر التاريخية على الوجود العربي والمصري؟، وهل يدرك مستجدات الخطر والتي تقبع على رأس شريان الحياة لمصر "النيل"؟، وتلك الأخطار التي أنتجها التجريف الثقافي والتعليمي والديني على العقل المصري؟ ما هي فلسفته في إدارة كل هذا؟ وما هي القوى الاجتماعية التي سيركن إليها؟كسر الشعب حاجز الخوف وحاجز القبول بما لا يرغب فيه وأطلق طاقة الرفض للسيطرة والاستبداد من سلطة فساد أو سلطة دينية، بل إنه تجاوز المواجهة الداخلية إلى التصدي للسيطرة الأمريكية على القرار عندما خرج في 26 يوليو 2013 ولم يكن الأمر تفويضا لمواجهة الإرهاب وهي من صميم مهام الدولة، ولكنها كانت تأكيدا على وحدة قرار المواجهة مع الإرهاب في الداخل وعناصر دعمه من الخارج ورفضه للتدخل الأمريكي في القرار المصري.لم يعد الأمر تفويضا على بياض، ولكنه برنامج عمل تتحدد مسؤولية إعلانه فيمن يتصدى لمسؤولية موقع الرئاسة لينجح أن اكسب الموقع سمة القيادة والخطاب الواضح وجسارة اتخاذ القرار.في 12 أغسطس 2012 تمت إقالة المشير طنطاوي والمجلس العسكري وتعيين الفريق أول عبد الفتاح السيسي وزيرا للدفاع وقائدا عاما للقوات المسلحة، يومها حادثت صديقا كان عضوا بالمجلس الاستشاري ومجلس الشعب بعد يناير، وكان قريبا من الحوارات الدائرة في ذلك الحين، وكانت كلمته (لن تمضي ستة أشهر إلا والسيسي رئيسا للجمهورية!).هل كان استقراء ذاتيا من الشاب أم أنها حسابات القوى والقدرات وطبيعة الصراع خارج ميادين الثورة؟مرت 18 شهرا مليئة بالأحداث، وقائعها كشفت انحياز الشعب لثورته وللدولة المصرية، وكشفت انحياز الجيش لعملية إعادة البناء للقوات المسلحة وتنوعا محدودا لمصادر السلاح، كما كشفت انحياز الجيش للإرادة الشعبية. كل ذلك يخرج بنا من مجرد وصف الحالة بالتآمر كما يراها البعض، أو الانحياز للطموح الشخصي واكتساب القدرة على تحقيقه بالانحياز للإرادة الشعبية في إزاحة حكم الإخوان، ولكنه يفرض جديدا، وهو ضرورة الارتقاء إلى الانحياز للأهداف الغائية للإرادة الشعبية، ولا يصير الانحياز انتقائيا حسب رغبة أو ما يحقق طموح، وغير هذا فإننا نكرر وقائع ما جرى بعد يناير وإن اختلف الشكل، وكأننا لم نستوعب دروس 36 شهرا مضت.الأمانة تقتضي الإقرار بأن إدارة المرحلة منذ ما قبل 24 يناير وإلى اللحظة كانت تنجز مهامها، ووصلت إلى اللحظة الحالية، ولكن هذه الإدارة لن توصف نتائج أدائها بالإيجاب ما لم تعِ دروس ثورة يناير 2011، فإذا كانت يونيو عملا مشتركا لها مع الشعب، فإن ثورة الشعب في يناير هي التي فتحت باب العمل المشترك في يونيو.ما يجري في مصر من صخب عالي الصوت سواء بمظاهرات أو قتل ودم وحرق، أو ذلك الصخب الإعلامي الممجوج على شاشات الفضائيات التي تتصرف بلا مسؤولية وتعلن سقوطا للإعلام الإعلاني في مصر، كل ذلك مظاهر للانحراف بالأحداث، هي مظاهر للعجز عن الاستيعاب لمعنى استخلاص الإرادة، وهي دلالة أن المشوار لاسترداد الدولة طويل ولم نبدأه بعد.لست ممن يؤيدون أو يرفضون، ولكن أدرك إلى من أنحاز، والإنسان بلا انحياز كريشة في عاصفة هوجاء، لا أرضا يقطع ولا وجودا يتحقق.الانحياز للإرادة الشعبية لا يعني أننا نحتاج إلى مخلِّص أو رئيسا توافقيا، ولكننا نحتاج ممن يكاد الإجماع الشعبي أن يقبل به أن يعلن عن نفسه، ويعلن لنا ماهية فلسفته والرؤية الحاكمة لها وفق انحياز اجتماعي محدد ومعلن.أكتب هذه المقالة من الدوحة - قطر في زيارة لشقيقي وأدعو له بالشفاء، وممن التقيت أحسست بأن مصر في القلب، هي حديث المجالس، الجميع ينتظر أن تعود مصر لمهامها، وأن وحدة الشعب العربي لن تنفصم عراها، ليس كلاما عاطفيا، ولكنه إدراك لعقل يعي معنى انتمائه للعروبة.