10 سبتمبر 2025
تسجيلفي علوم النفس وتحليل السلوك عادةً ما تتم دراسة السلوك الإنساني كمُثير واستجابة، ولكن قد يغفل عامة الناس أن الاستجابات المختلفة يكمن خلفها طيف كبير من التحليل الفكري والشعوري قبل أن يظهر كسلوك مادي ظاهر للعيان. ومن هنا تأتي تربية النفس، والتسامي بالسلوك، فالاستجابة الشعورية لأمر ما يُثير الغضب، مثلاً قد لا تكون الاستجابة له بسلوك غاضب حتماً، لأن هناك عمليات سابقة فكرية وشعورية تجعل الإنسان يستجيب بوعي فيكتم غيظه مثلاً، أو يُسفهه أو حتى يحوله لغضب على أمر آخر.. الخ. إلا أن الجانب المظلم في تلك العملية هو تطوير المرء لأقنعة يرتديها ليحمي بها ذاته من نبذ من حوله، فيتصنع استجابات لا تشبه دواخله، ويُظهر غير ما يُبطن. إلا أنه من اللطيف حقاً أن ندرك أن الإنسان كلٌ متكامل، وهو كونٌ وحده.. هذا الإدراك يخولنّا الفهم أنه من شبه المستحيل أن يفصل المرء بين روحه وجسده وأفكاره وقناعاته، ووجدانه وشعوره.. مهما بلغ جهده في أن يُخفي أو يُحيّد أثر أي منهم على حياته، ومهما بلغت قدرته في ارتداء الأقنعة والتحكم في تفلت سلوكه الظاهر، وكلماته البيّنة. فكل ما تضمره من فكر وشعور وطاقة، وكل ما أنت عليه من حالٍ ومقامٍ سيظهر حتماً عليك.. في مسلكك وكلماتك واختياراتك بل وحتى في حديثك الداخلي مع نفسك وتعاملك مع الآخرين في حضورهم وغيابهم، وبالتالي في فلتات لسانك وزلات قلمك ولغة جسدك وتعابير وجهك. فلن تستطيع أن تكتم حباً، أو تُضمر كرهاً، دون أن يتبّدى على ظاهرك وحديث أعضائك، فللعيون حديثها المفضوح، وللقلوب شواهدها البيّنة. وكما قيل: (ما أضمرَ أَحدٌ شيئًا إلا ظهر في فلتات لسانه، وصفحاتِ وجهه). ولذا فمن الحكمة أن نعي حقيقة أن الناس (سيماهم في وجوههم) فعلاً لا مجازاً، وأن اعتياد روح المرء ونفسه وعقله وجسده على التفاعل مع دواخله وما يضمر سيظهر حتماً على ظاهر جسده وأفعاله وأقواله كخريطة تدل على ما يكنّ وما يضمر.. بقصدٍ أو بدونه. وكل ذلك إنما يخلق وعياً متزايداً بأنفسنا، وإدراكاً عميقاً لفهم الآخرين حتى لو لم يصرحوّا بظواهر سلوكهم وأقوالهم، فتلك التفاصيل تخلق ذكاءً عاطفياً، وفراسة تخترق حجب الظواهر، وسواتر المُعلن، وتجعل تعاملاتنا الإنسانية أكثر سبراً للأغوار النفسية والفكرية المتداخلة، ومن هنا يكمن ارتقاء آخر بعدم الميل إلى سرعة إطلاق الأحكام أو التسرّع في رفع راية العداوات، بل الأولى أن يكون ذلك الإدراك حاثاً على التراحم وتلّمس الأعذار، وتفهّم اختلاف الطبائع، والمرونة للتعامل مع مختلف أطياف البشر، ولزيادة الألفة والمحبة واتقاء شر كل ذي شر بالحكمة وحسن التصّرف. لحظة إدراك التعامل مع الإنسان ككل متكامل يجعل نظرتنا إليه واقعية من طبيعة بشرّيته، ويقلل من صدمة بناء التوقعات غير الحقيقية، وهذا من المفترض أن يجعلنا أكثر تفهمّاً، أكثر رحمة، أكثر تقديراً وتثميناً ومرونةً مما يؤهل الإنسان للتعبير بحرية أكبر عن إنسانيته، وبانطلاق يشبه حقيقته وفرديته، وتتقلص حاجته مع الوقت لارتداء أقنعته التي لا يرتديها إلا ليواري ما يعتقد مجتمعه أنها سوءات لا تليق به.