10 سبتمبر 2025

تسجيل

اعتزل ما يؤذيك !

06 أغسطس 2024

لعل من أكثر الحكم والنصائح التي تتردد على مسامعنا كثيراً هي التوصية القيّمة باعتزال ما يؤذيك، فما أشقّ على المرء من الإقامة في مقامٍ مؤذٍ، سواءً كان علاقة بأشخاص، أو وضعاً مزعجاً يربك الذات، أو شعوراً مُوجعاً يزيد البأس، أو عملاً يُضر الجسد أو يُهلك الروح. وهذه من أبسط حقوق الأنام على أنفسهم قبل أي أحد، فصيانة النفس من الأذى واجبة، ومن أولى الأولويات التي تحفظ للمرء سلامه الداخلي وراحة باله. ولكن من المهم قبل أن يتخذ المرء قراره ذاك بالاعتزال أن يتأكد من نوع الأذى الذي يلحقه، ودرجته، وما يترتب عليه، فماذا لو كان اعتزال ما يؤذيك يؤذيك أصلاً؟ أو يُسبب لك ضرراً أكبر مما اعتزلته؟ لذا فإن من الحكمة إدراك أن نصيحةً مثل تلك لا تؤخذ على علاتها، ولا تستخدم كوازع للهروب، أو مبرر لترك المسؤولية، أو مُسوّغ للبلادة الحسيّة، أو دافع للاستسلام السريع أمام أول التحدّيات، أو التحرر السريع من الأذى الظاهر دون حساب عواقبه من المُلمات الأكثر تأثيراً على الباطن أو التخلّص من التعسّف على المدى القريب دون اعتبار الضرر المترتب على المدى البعيد. فليس كل الأذى ضررا يتطلّب الاعتزال، فمنه ما يُحل بقوة الاقتحام، وبشكيمة الاشتباك، وبشجاعة الخوض، ووضوح التعاطي معه حتى ينتهي أو يتضاءل. وليس كل أذى هو أذى حقيقي، فقد تُشكّل بعض التحديات التي تحمل في بواطنها الخير العميم، والفتح الجليل أذى يزول بالاصطبار، والتحمّل، والجلد، والصبر الجميل، فلا يغدو بعدها الأمر إلا فتحاً مبيناً، وعوضاً كبيراً يُنسي صاحبه ما قاساه في سبيله من الأذى. لحظة إدراك: ليست الوصايا بظاهرها فقط، فلكل وصيّة سياق ومقام، ومعنى يليق بها، وتنفع من خلاله، ومفهوم تُعرّف به، فلا يجوز مثلاً أن نقول للطالب المجد أن يعتزل ما يؤذيه من الإقبال على التعلّم، وليس من اللائق أن نقول للأم الرؤوم أن تعتزل ما قد تعدّه هي أذى تصادفه في رحلة تربيتها لأبنائها، وليس من العدل أن نقول للقائم بالإنفاق على أسرته أن يهجر مصدر دخله الوحيد لأذى يجده فيه دون إيجاده لمصدرٍ بديل!