11 سبتمبر 2025

تسجيل

تراب الوطن

29 أغسطس 2013

حين يبتعد أحدنا عن وطنه وأهله وتأخذه المسافات بعيداً عنهم، يبدأ بإعادة حساباته كلها تجاه كل شخص ممن فارقهم، كيف كانت علاقته في السابق معه وكم مرة أخطأ في حقه أو قصر معه، وكم مرة كان بإمكانه أن يكون معه ولكنه لم يفعل، وكم مرة طلب منه شيئاً ولكنه لم يلبه، وغير ذلك الكثير. نبدأ رغماً عنا بالحنين لأرض الوطن، ويجتاحنا سيل الذكريات الجميلة والمؤلمة على حد سواء.. نفكر بكل لحظة كنا فيها بين أهلنا وننعم بينهم بالأمان والعزة والشموخ والقوة، لأننا ببساطة محاطون بكل القلوب التي تحبنا وتخاف علينا ومستعدة لأن تضحي من أجلنا حتى آخر قطرة دم فيها. نفكر ونتذكر بكل معاني الحب والاهتمام التي كنا ننعم بها بينهم حين كانت رغباتنا كلها منفذة، وآلامنا معالجة، وتفاصيل حياتنا مشمولة بمشاركتهم ولمساتهم.. ولكن حين قررنا الابتعاد عنهم من أجل تحقيق أهداف كنا نظن أنها قد تعوضنا غيابهم أو الحرمان منهم ومن ارض الوطن، حينها عرفنا حقاً كم نحبهم ونعشق تفاصيل الحياة معهم، وكم أننا نحتاج أن نكون معهم. عرفنا بكل جوارحنا معنى الوطن والأهل حين أضعفتنا الغربة ومشاعر البعد والوحدة، فكانت نسائم أصواتهم هي اليد التي تقوينا.. وحين كانت حمى المرض تهاجمنا لم نجد إلا مياه دعائهم تخفف عنا ما نحن فيه.. وحين كان واقع الغربة يلفنا من كل مكان كانت أحلام لقياهم تهدهدنا وتخفف عنا معاناة الفراق.. مرت أيام وأشهر كأنها سنوات طوال ربما لايشعر بها إلا من كتب عليه البعد والرحيل، يحس بأن اليوم يمر عليه بسنة، وبأن الحنين يجتاحه كل يوم وليلة حتى لايقوى على الصبر والاحتمال.. فيقرر أن يستسلم للنوم لعل الساعات تقربه من أهله ووطنه، ولعل الغد يحمل له خبراً أو مناسبة أو أي شيء يقربه من أهله وأحبابه.. وحين تمر تلك الأيام الثقيلة القاسية ويحين وقت العودة للوطن والأهل تصبح الدقائق طائرات وسفن تنقل كل نبضة من قلبه إلى هناك على أمل أن يلحقها بجسده هناك.. وحين تحين اللحظة التي طال انتظارها ونعود لبلادنا ما أجمل لحظات اللقاء التي تجعلنا نتفقد كل لمحة أو تفاصيل على وجه والدينا، لنرى ماصنعه الزمان وبعدنا بهم، ونجدنا دون أن نشعر نحاول جاهدين أن نملأ صدورنا بهواء الوطن ورائحة ترابه التي نشأنا عليها، ونتفقد وجوه من حرمنا منهم وقلوبنا تنبض بالوعود والقسم بألا نتركهم مرة أخرى، وبألا نبدل حفنة من دولارات زائلة بغيوم حبهم وحنانهم واهتمامهم بنا.. فمهما كان في الغربة من فوائد وتحقيق أهداف ومصالح، فانها لايمكن أن تغنينا عن أغلى الناس ولا عن تراب الوطن.