28 أكتوبر 2025
تسجيلكانت نديمة مشغول موجودة في ذلك المساء العادي، ملكة على مقعدها المرتفع الذي يمكّنها من مراقبة نشاط مقهاها من دون أن تضطر إلى الانحناء أو مد الرقبة كثيرًا، أو الاستدارة غير الضرورية. ترتدي قميصها الأحمر ذا الحواف المطرزة بالبرتقالي، والذي يساعدها على النشاط كما تقول، على يديها أساور من ذهب عياري من نقش اليهودي إيزاك)، تاجر الذهب الكبير، وحولها عدد من شباب المدينة، كاشفين لصدورهم المغطاة بالشعر، يكلِّمونها في همس، ولا ترد على أحد. وخمنت أن قولونها العصبي لا بد متشنج بشدة، إمساكها المزمن لا بد في القمة، اقتربت منها، وابتعد المحلقون، قلت: استخدمي الفجل بعد غليه في نار هادئة، واخلطيه بالعسل، استخدمي قشر الليمون المجفف بعد سحقه.. استخدمي نبات (الدندرة) المر ثلاث مرات في اليوم.. هذا يساعدك. كانت وصفات مخترعة، اخترعتها في تلك اللحظة، وأردت أن أستحلب بها ابتسامة من تلك الملكة الواجمة، لكنَّها لم تبتسم، ولا بدت قابلة للابتسام في أي لحظة. وبصوت بعيد عن صوتها الممتلئ بالتعرجات، الذي طالما استمعت إليه من قبل، رددت:- هل سمعت الأخبار يا ميخائيل بك؟- أي أخبار يا ملكة؟. ثورة الخراب.. أي ثورة؟رددت مندهشًا وأنا أحدق في وجهها، محاولًا أن أقرأ المزيد.وبصوت رتبته جيدًا ليكون عميقًا وجارحًا، ومغرقًا في التطرف الحزين، حكت الملكة نديمة، عن قائد أسطوري اسمه (المتَّقي)، نبع من قرية منسية اسمها (أباخيت)، على شاطئ النيل أو تخوم الصحراء، لا تدري بالتحديد، عن بطشه وجبروته، سيرة زهده وتعاليه على الدنيا الفانية، وآلاف الفقراء الذين تبعوه بمجرد أن ظهر، ويتبعونه إلى آخر الأرض لو مشى إلى آخر الأرض.. لقد هزموا الحكومة بجدارة حين سمعت بأخبارهم، وأرسلت إليهم سرية مستخفة، فيها جنود عدة ومدفعان صدئان، خرجوا إلى القرى، ودكوها. إلى الجبال، ودكوها. إلى الوديان، ومساقط المطر، ودكوها. والآن بالتحديد يزحفون نحونا.. يقتربون من مدينة (السور) التي تقول الأخبار، إن المتَّقي سيتخذها قلعة ينطلق منها.كان ثمة أخبار رسمية وردتنا منذ أيام عدة، عن تمرد طفيف لبعض الغوغاء في قرية اسمها (أباخيت) تقع قريبًا من النيل، على بعد عشرين يومًا من (السور) وتتبع لأقاليم الوسط. كانوا يطالبون ببناء مخازن كبيرة وصلدة، لحفظ غلالهم من القمح والذرة والسمسم حتى لا تفسدها الريح والأمطار، واحتوت الحكومة استياءهم بسهولة حين ربطت زعيمهم إلى جذع شجرة من أشجار السنط، وضربته بالخيزران، وقبل ذلك بأسابيع عدة، تمرد (الشريف علوبة)، زعيم إحدى المناطق الريفية الغنية بالزراعة والرعي، حين أعاد جباة الضرائب الذين أرسلناهم إليه في إجراء عادي وروتيني، محملين بأكياس ممتلئة بالرمل والحصى وبعور الإبل، وكان أن ذهبت إليه شخصيًا برفقة جنود عدة مسلحين تسليحًا رثَّا. تحملنا ركاكة لسانه، وقهوته المرة، وبصقه للتمباك على ثيابنا، وبذاءة أتباعه وهم يشركوننا بالقوة في مسابقة بربرية لشد الحبل، ويهزموننا، وعدنا في النهاية بضرائبنا كاملة لا تنقص قرشًا واحدًا، وفيما عدا ذلك، لا شيء.. لا شيء سوى المجنون (مخلوف) الذي ضبط عاريًا في الطريق العام، يبحث عن أخشاب من النار، وبائعة الهوى (طلاسم) التي تابت فجأة، وتوقفت عن دفع الضريبة، وربة منزل من حي (أرض الكوثر) الفقير، باعت طفلها الرضيع لسائح أوروبي.. لا شيء.