25 سبتمبر 2025
تسجيلهذه البلاد تحتاج إلى بنّائين.. تهدّمت الدور وانهدّت المباني، لن نجد عاطلاً عن العمل مدّة خمس سنوات.. قال بنّاء وهو يتابع النشرة، قال حامل القاذف ثمة أبنية لم تنهدّ، يجب أن أسدّد بدقّة يجب أن نبني إيماننا بالوطن.. ومضى يبحث عن موقع جديد ليهدمه. هذه البلاد لم تزل مليئة بالعصاة.. قال حامل البلطة، قالت العصا للبلطجي: صرت أخجل من أشجار الغابة وصرخت ولم يفهم البلطجي ولكنّ يده شلّت فجأة. وقالت طيور السماء: لم يعد لنا مأوى في هذا المكان فالأطفال يطيرون في فضائنا، وقال طالب المدرسة: نريد دفاتر جديدة لنحصي أسماء الشهداء، دفاترنا القديمة امتلأت، وقال المعلم: منهج هذا العام مختلف، لم يعد الفاعل مرفوعاً ولا المفعول به منصوباً، سنساوي بين الجار والمجرور، وهمزة القطع وهمزة الوصل. جارتنا الندّابة همست: هذه البلاد تحتاج إلى دمع كثير، أنفقت دمعي في مراثٍ قديمة.. بكيت مع أم فقدت ولدها الوحيد، وبكيت مع أرامل ودّعن شباباً قبل أن ينجبن، ومع أيتام لا يتذكرون من آبائهم إلا صوراً باهتة، وبكيت مع الناجين من الطاعون والجوائح والمجاعات فقدان ذويهم، ولكنّ هذا الموت كثير، السكاكين تشقّ الجلود كأنها أكياس قماش، هذا كثير.. والدمع في صرّتي لا يكفي. هذه البلاد بحاجة إلى نار لا تنطفئ، الثورات لا تقوم كلّ يوم، سنعيد تنظيم الحياة من جديد، لكلّ بيت نافذة، ولكلّ حقل غيمة.. قال الشابّ مندفعاً، وقال الكهل: النار هي الدواء الأخير، أكواخنا لا تحتمل، ومواسمنا تحتاج إلى فؤوسنا وقلوبنا. سأكتب مرثيّة كبيرة لم يظفر بمعانيها مالك بن الريب ولا متمم بن نويرة ولا أبو ذؤيب الهذلي، سأبكي بلاداً على صورة شجرة كانت خضراء.. قال الشاعر البكّاء بن نادب، وقال صديق الشاب: سأكتب رواية بل ملحمة، هذه أساطير وليست أحداثاً عابرة. هذه البلاد تحتاج إلى الحبّ.. أحبوا بعضكم كما كنتم، بالحبّ نطفئ النار ونصلح البيت قال الشيخ: هذه البلاد بحاجة إلى أمل قال المسافر، بحاجة إلى حكمة قال الفيلسوف، بحاجة إلى نفضة قال بائع السجاد، بحاجة إلى وضع الرجل المناسب في المكان المناسب قال لاعب الشطرنج، بحاجة إلى مال قال السمار، بحاجة إلى نوافذ وأبواب قال الحدّاد، بحاجة إلى قلب جديد قال الطبيب الجّراح. *** ورسم الأولاد سطراً جديداً أسفل الصفحة، كتبوا فيه كلمات قليلة صالحة لخاتمة نص مبعثر، واشتبك مبضع الجرّاح ببلطة القاتل، وإزميل البنّاء بقاذف العسكري، اشتبك الشاب والكهل والشاعر النادب والفيلسوف والمرأة الباكية، اشتبكت الغيوم بالعواصف والليالي بالنهار القادم. وتجدول الدين والموت والحاجات الجديدة لبلاد كانت تشعر بالحاجة إلى كلّ شيء. مرّت شهور وشهور، ومازال المطر يهطل في الصيف، والشمس تظهر في الليل، والأولاد يحصلون على درجات عالية، وتغيّرت ألوان الشوارع والجدران والسماوات، وفقدنا عائلات بحالها، ومدناً وبيوتاً وأشجاراً، فقدنا بحراً كبيراً كان عشاق البلاد يلوذون بحزنه من خيباتهم، فقدنا خوفنا أيضاً، وحملنا رجاءنا الباقي، وخرجنا إلى الشوارع لنهتف.