17 سبتمبر 2025
تسجيلأصدق ما يكون المرء حديثا؛ حين يشتكى لطبيبه مرضا ألم به، يحكى له بدقة متناهية وإذا نسي أمرا فتذكره قاله على عجل؛ لأنه يدرك أن أي خطأ أو تزوير عاقبته الوخيمة عليه.وإذا كان هذا في علم الأبدان فإن علم السلوك أحوج إلى هذا الصدق، فليس أحد معصوم من الخطأ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (كل بني آدم خطاء) ومن ادعى الحكمة الدائمة والصواب المطلق فقد ادعى المحال أو الجنون كما قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: من يبرئ نفسه من الخطأ فهو مجنون. وما دام الخطأ لصيق الصلة بالمرء فليس العيب فيه أو في الإخبار عنه، وإنما العيب في المكابرة عليه، وهذه المكابرة أحد مظاهر الكبر وعاقبته وخيمة، فقد روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس) وفي رواية الترمذي: (ولكن الكبر من بطر الحق وغمص الناس) وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر، فقال رجل: يا رسول الله! إني ليعجبني أن يكون ثوبي غسيلاً، ورأسي دهيناً، وشراك نعلي جديداً — وذكر أشياء حتى ذكر علاقة سوطه — أفمن الكبر ذاك يا رسول الله؟ قال: لا. ذاك الجمال، إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر من سفه الحق، وازدرى الناس).فالمرء إذا ساند الباطل لأنه فعله وقاوم الحق لأنه مع غريمه فهو المتكبر، أما العاقل فهو الذي يخبر بدائه ويعترف بخطئه ويرجع إلى الصواب.والناظر في حياة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يدرك ان هذا الخلق كان ديدنهم، والتاريخ يذكر أن أبا بكر لما حلف ألا ينفق على مسطح ولا يعطيه شيئاً؛ لأنه ظلم ابنته عائشة، وتبين له أنه خالف الصواب رجع إلى الحق وذلك حين نزل قول الله عز وجل: وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22] ولا يأتل: أي: لا يمتنع، وكان مسطح قريباً للصديق وقال: والله لا أنفق على مسطح شيئاً بعد الذي قال لـعائشة، فلما نزلت الآية قال أبو بكر رضي الله عنه: [بلى والله، إني لأحب أن يغفر الله لي] فرجع إلى النفقة التي كان ينفق عليه وقال: [والله لا أنزعها منه أبداً] وكفر عن يمينه، هكذا فعل.إن مما ابتلينا به أننا ندفع الحق في كثير من الأحيان ولا نقبله، ونجادل بالباطل؛ إما حذرا من الاتهام، أو تصديقا للذات ولو على حساب الحق، والمؤمن الحق كما قال الفضيل رحمه الله هو الذي يخضع للحق وينقاد له ويقبله ممن قاله.يقول ابن القيم رحمه الله: إن من أعظم التواضع أن يتواضع العبد لصولة الحق، فيتلقى سلطان الحق بالخضوع له والذل والانقياد، والدخول تحت رقه؛ بحيث يكون الحق متصرفاً فيه تصرف المالك في مملوكه، فبهذا يحصل للعبد التعرف على الصواب والاعتراف بالخطأ، ويسهل عليه الانقياد للحق.ولقد كان عمر رضي الله عنه حريصا على تأسيس هذا الخلق خاصة بين الأمراء ففي كتابه لـأبي موسى الأشعري قال:[ولا يمنعك قضاء قضيت به اليوم فراجعت فيه نفسك، وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم، ولا يبطل الحق شيء، وإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل]. ولذلك أقر موسى عليه السلام بخطئه لما ذكره به عدوه فرعون لعنه الله، قال فرعون لموسى: قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الشعراء:18 — 19] أي: عندما قتلت ذلك القبطي، قال موسى عليه السلام: قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء:20] فاعترف أنه فعلها على ضلالة، ليس كفراناً بنعمة فرعون، ولكن فعلها على ضلال: قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء:20] يعني: قبل أن يوحى إلي وأرسل وأنبأ، فعلتها إذاًَ وأنا من الجاهلين، ولما قال الخضر لموسى عندما تسرع موسى، ولم يفِ بعهده للخضر في الصبر على ما يجري قال الخضر: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً [الكهف:72 — 73] فجمع بين الإقرار والاعتذار، وهذا من خلق موسى عليه السلام. جميل أن يكون الحق هو الغاية والمراد، وجميل أن يكون المعيار هو القرآن العظيم وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجميل أن يعتقد المرء أن قوله قد يكون صحيحا وقد يكون غير ذلك.