13 سبتمبر 2025
تسجيلفي عام ١٩٥٩ وصلت إلى أرض قطر بعثة دنماركية بغرض الاكتشاف الأثري، أو ما يُسمّى في وقتنا المعاصر بالبحث الأركيولوجي، وكان على رأس البعثة كلاوس فيردناند الباحث الأنثروبولجي الكبير، الذي جاء ليس فقط لأهدافٍ علمية مقيّدة باتجاهات البعثة ومساراتها، بل أيضاً لمطامح بحثيّة خاصة، استطاع تحقيقها فيما بعد وتوّجها بكتاب مستقلٍ، عنوانه ”بدو قطر“ وثقت في أربعمائة صفحة بالإنجليزية. ضمّت البعثة كذلك العالم المتخصص يته بانغ، الذي اشترك وفيردناند في التقاط ما يزيد على الألفي صورة وثائقية، لم ينشر منها سوى نسبة قليلة، في الكتاب الذي تكرّمت هيئة متاحف قطر بطباعته قبل سنوات. كشفت هذه البعثة عن جوانبَ لم تُطرق من قبل، وذلك على مستوى النظر والتفكير، وإلا فإن المواقع الأثرية التي بعضها اندرس، وبعضها بقي طَلاً (مفرد أطلال) شاهداً أخيراً على وجود أهله، قد شوهدت، والحكم هنا يأتي جازماً لا ترجيحياً، فما أكثر ما سمعنا - حاضراً - أن فلاناً وقف على آثار مقبرةٍ ما، أو شاهد أحجاراً مرصوفة هنا أو هناك، فكيف إذن حال الذين عاشوا قبل عقود قليلة أو قرون غابرة يرعون أغنامهم في كل قفر، أولم يأخذهم طريق المراعيَ يوماً إلى تلك الآثار أو مر بهم على القليل؟. كانت أرض قطر منذ قرون، قِبلَةً تفد إليها القبائل والجماعات، منها من يبقى، ومنها من يطوف ”يعسّ المكان“، ومنها من يتردد عليها حسب المواسم، وعلى ضوء هذه الملامح ذات الدلالة الاستنتاجية، أعني على ضوء الاستقرار الدائم والهجرة المتكررة والوفود المتواترة - براً وبحراً -، يتبدّى لنا حجم الحركة البشرية الكثيفة التي شهدتها قطر، وتظهر لنا من جانبٍ آخر مرونة عالية تميّز بها أولئك الذين جاءوا واستقروا، وأولئك الذين جاءوا وذهبوا، وأولئك الذين حضروا واستأنفوا رحيلهم ثم عادوا، لذا فأهم ما يشير إليه هذا الجو الحركيّ أو الملحميّ -مع استحضار ما ألفه الأوّلون من النظر والبصيرة، بجانب الدأب على التطواف إما للصيد أو بحثاً عن الكلأ- هو أن الناس في قطر لابد وقد وقفوا على الشاخص من تلك الأطلال، وتلمّحوا الدارس منها، ولا بد أن رأوها بالعيون وتأملوها أو ربما استشعروها وحدّثتهم بها الظنون، وذلك بحكم عوامل كثيرة، منها العلاقة المتينة والمباشرة التي ربطتهم بالأرض، فشدت وثاقهم إلى عروقها وضروبها وبطونها وأضلعها؛ إذ ثمّة آصرة نفسيّة تصل بينهم، ونسبٌ روحي يجمعهم، يجعلهم ينبضون بمواطئ أقدامهم، حتى أنه ما من وقعٍ يمسّ الأرض، إلا كأنما يقع على جلودهم قبلها. ما أردت قوله هو أن الأرض القطرية بناسها وأهلها وأصحابها ووفودها وزوّارها، وعلى مدى العقود والقرون، من شبه المؤكد أنهم وقفوا على شتّى الآثار الموجودة من جنوب البلاد إلى شمالها -المُكتشَفُ منها اليوم والمجهول-، وأنهم ميّزوها بمجرّد النظر، ولكن لم تتسن لهم -آنذاك- الظروف الطبيعية والمعطيات التاريخية التي تسمح لهم بتنقيبها ودراستها وتفصيل القول فيها أو إجماله. ونظراً إلى الفترة التي جاءت فيها البعثة الدنماركية، وقياساً على التطور التاريخي للدولة القطرية والتشكل الاجتماعي الحديث للقطريّين، والبروز المتأنّي لهما على مسرح الزمن، يتضّح أن هذه البعثة كأنها حضرت في أنسب موعدٍ لها ولنا على الإطلاق، حيث يعبّر عقدا الخمسينيات والستّينيات الميلادية عن مرحلة الانتقال - شبه الجذري- من الشكل التنظيمي التقليدي إلى الشكل الأكثر تنظيماً على صعيد الاستقرار والإدارة، بالتالي فإن المجتمع والدولة كانا - وقتذاك - في أمثل وقتٍ لهما من الشعور النَّسَبِي (الجينالوجي) بالأرض، ومن الوعي بالذات والوعي بالوجود. إن تلك الفترة مثّلت تفتّق الذهن القطري المعاصر على وجوده الجوهري في جغرافيا الخليج وشرق الجزيرة العربية، وعلى دوره المهم في تاريخها، فلهذا كشفت البعثة الدنماركية عن المساحات (اللّا مُفكَّرُ بها) وذا في تقديري هو أعظم النتائج المترتبة على زيارة البعثة، ولكن هل تم استغلالها جيداً والبناء عليها بالشكل الكافي الوافي والمطلوب؟.