13 سبتمبر 2025

تسجيل

مقهى قديم

28 ديسمبر 2015

كنت من مرتادي مقهى (خزي العين) الذي يقع في وسط المدينة تقريبًا، وعند نقطة تجمع مواصلات الريف، التي كانت حميرًا وأحصنة وإبلًا يؤجرها أصحابها للسفر بين المدينة والقرى، أمر عليه مرتين أو ثلاثًا أسبوعيًا، ألتقي بعدد من الأصدقاء والمعارف، أثرثر معهم أو ألاعبهم النرد والورق، أو أصطاد خبرًا قادمًا من العاصمة والمدن الأخرى، لم يأت بطريقة رسمية بعد. كنت أفضله على نادي (يوتوبيا) الأرستقراطي الذي أرتاده في المناسبات فقط، ولا تعجبني وجوه مرتاديه التي كانت كلها استعلاء وغطرسة.. وكانت نديمة، صاحبة المقهى، سخية في كل شيء. سخية في ضحكاتها، توزعها على الجميع. سخية في حديثها، تدلقه بلا تحفظ. وفي استطلاع للرأي أجراه عدد من عشاق الصرعات، لاختيار، أتفه امرأة في المدينة وأحبها إلى قلوب الجميع، وجرى في مقهاها وتحت سمعها وبصرها وضم بضع نساء أخريات من نساء المدينة، توَّجها الجميع بلا استثناء.. المرأة التافهة الحبيبة لكل قلب.في أحد الأيام سألت نديمة عن ماضيها البعيد، قبل أن تحط برحالها في مدينة السور، وتسكنها تلك السكنى المميزة، قالت: ماض مضى واندفن، لا تحفره يا سيدي.. عن مستقبلها، وهي في تلك اللجة العميقة بلا زوج ولا أهل ولا حبيب وهدف لتحرشات بلا حصر.. قالت: أنا زوج نفسي وحبيب نفسي وأهل نفسي، حتى لو تحرش بي حاكم البلاد العام.. لا تهتم.. أرجوك.. ولم أهتم بالفعل.دخلت إلى مقهى (خزي العين) في ذلك المساء، دخولي الذي اعتدت عليه دائمًا، ملابسي منسقة بعناية، حذائي مغسول ولامع، وطربوش أحمر جديد يغطي رأسي. لم أكن أحمل لقبًا حكوميًا خاصًا بالرغم من منصبي الحساس في مجلس المدينة، لكن اللقب كان موجودًا بالفعل، وأسمعه يتردد باستمرار على جميع الألسنة التي تخاطبني، وحتى على لسان التركي (يوسف دامير) رئيس مجلس المدينة، وحاكمها الموقر.. مرحبًا ميخائيل بك.. تعال إلى مكتبي يا ميخائيل بك... هكذا..كان (خزي العين) مزدحمًا كعادته في كل مساء، مضاء بفوانيس الجاز ذات اللهب المتراقص، وزبائن بسحنات شتى، بعضهم من داخل المدينة، وبعضهم من الريف، يشغلون موائده المصنوعة من خشب الزان المغطى بوبر الإبل، يحتسون الشاي والقهوة وعصير التلبدي، أو يدخنون تبغ (الدردار) الخشن، الذي يستخرج من مزارع محلية في أطراف المدينة، ويعالج بمادة (العطرون) التي تكسبه خشونة أكثر، وتوصله إلى شرايين المزاج بسهولة. عثرت على قريبي (مسمى طاؤوس) الذي كان شاعرًا عاطلًا عن العمل، ويقضي أمسياته في (خزي العين)، يتصيد أعيان الريف القادمين إلى المدينة، يبيعهم قصائد المدح التي يرتجلها أمامهم، وكان في تلك اللحظة برفقة ريفي بعمامة فخمة ورداء من جلد الخراف، يتساومان على قصيدة محتالة بصوت مرتفع.