12 سبتمبر 2025

تسجيل

التغير المناخي في معادلة الصراع الصيني-الأمريكي

28 نوفمبر 2021

عقب انتهاء الحرب الباردة، جادل الليبراليون ومناصروهم أن القضايا والظواهر العالمية الجديدة الناجمة عن العولمة والتغيرات الهيكلية في بنية النظام الدولي، كقضية الإرهاب الدولي، انتشار السلاح النووي، الجريمة المنظمة، الهجرة، وقضية التغير المناخي؛ سوف تضيق مساحات الصراع والتناحر الجيوسياسى والعسكري بين الدول الكبرى، بحيث تجبرهم على التعاون. وهذا لا ينبع فقط من الخطورة البالغة لتلك القضايا على العالم والأمن الإنساني العالمي والسلم والأمن الدوليين، بل أيضا في الصعوبة البالغة في اضطلاع دولة عظمى مهما عظمت قوتها بالتصدي لها بمفردها. ومنذ أن برزت بقسوة التداعيات الوخيمة للغاية غير المسبوقة للاحتباس الحرارى العالمي في الصيف الماضي، حيث تأثر العالم كله تقريبا من هذه التداعيات، وامتدت هذه التداعيات إلى مناطق كانت مستبعدة من هذه التداعيات وخصوصا أوروبا التي شهدت في الصيف الماضي موجات فيضانات وجفاف. لا حديث في العالم سوى كيفية التصدي لقضية التغير المناخي والسيطرة على الاحتباس الحرارى. إذ بحسب المختصين في حال ارتفاع درجة الحرارة واحدا ونصف درجة مئوية عن المعدلات الحالية، ربما سيؤدى ذلك إلى اختفاء دول بأكملها كسويسرا نتيجة ذوبان الجليد. وجاء الإسراع في عقد قمة "جلاسكو" الأخيرة برعاية الأمم المتحدة على خلفية بلوغ تداعيات التغير المناخي إلى مستويات خطيرة جدا يهدد البشرية جمعاً، مما يستدعى تكاتف المجتمع بشكل عاجل. وواقع الأمر أن مخرجات جلاسكو بشان المناخ مخرجات طموحة للحد من الانبعاثات الكربونية وغاز الميثان في حال الالتزام بها. وما أعطى أملاً كبيراً لتحقيق هذه المخرجات الطموحة خاصة مسألة "الحياد الكربوني". هو الإعلان الأمريكي-الصيني المشترك بشأن الموافقة على التعاون بينهما خلال العقد القادم بشأن التغير المناخي، حيث تعهد الطرفان بالعمل معا للحيلولة دون ارتفاع درجات الحرارة بمقدار 1.5 درجة مئوية وفقا لمقررات قمة باريس للمناخ 2015. ولا شك أن التعاون الأمريكي-الصيني الجاد بشأن المناخ يمثل الأمل الحقيقي للسيطرة على الاحتباس الحرارى، ليس فقط بسبب أن الدولتين هما الأكثر إنتاجاً في العالم للغازات الدفيئة. بل أيضا في قدراتهما الكبيرة وبوسائل شتى على دفع المجتمع الدولي على الالتزام بأية مقررات أممية طموحة للتصدي للتغير المناخي. في أعقاب البيان الأمريكي-الصيني المشترك، وإعادة التأكيد عليه في القمة الافتراضية التي جمعت بايدن وبينج عقب قمة جلاسكو؛ تعالت نبرات متفائلة للغاية مؤكدة أن قضية التغير المناخي سوف تدفع بالعلاقات الأمريكية-الصينية إلى مسار تعاوني، تهمش فيه القضايا الصراعية الكثيرة بين الطرفين لصالح أولوية التعاون للتصدي للتهديد الخطير للتغير المناخي كتهديد "وجودي" للبشرية كلها. لاسيما وأن التعاون بين الجانبين في مسألة التغير المناخي قد عقب توتر شديد على خلفية أزمة "تايوان". وواقع الأمر أن هذه النبرات التفاؤلية يكتسيها الكثير جدا من المبالغة وعدم الواقعية. فبلا أدنى شك، أن كلا الجانبين يستشعران جيداً التهديد الوجودي للاحتباس الحرارى. ومع ذلك، فمن الصعب للغاية أن تتغلب قضية التغير المناخي على مناخ الحرب الباردة بين الطرفين، والذى أججه بايدن سريعا عبر إحياء تحالف "كواد" الأمنى الرباعى، وتحالف "أكوس" النووي. وفى حقيقة الأمر نحن أمام قوتين إحداهما وهى الصين تسعى حثيثاً بلا هوادة للهيمنة العالمية على حساب الولايات المتحدة، في حين تسعى الأخيرة وبلا هوادة أيضا إلى إضعاف طموح الصين في الهيمنة العالمية. ومن هذا المنطلق، فمسألة التغير المناخي تندرج على نحو كبير في هذا الصراع على الهيمنة الدولية، وهى مسألة "وجودية" لكلا الطرفين. فعلى الرغم من التعهدات الكثيرة التي قطعتها الصين على نفسها للحد من الانبعاثات الدفينة، والتي من بينها "صفر" انبعاثات كربونية بحلول 2060. ومع ذلك، قد تتخلى الصين عن بعض من هذه الوعود لضمان استمرار معدلات الإنتاج والتصنيع الكبيرة للصين والقائمة على استهلاك معدلات رهيبة من الوقود الأحفوري والفحم، وذلك لضمان استمرار تفوقها الاقتصادي الذى تعول عليه تقريبا لانتزاع الهيمنة الدولية من الولايات المتحدة. وعلى الجانب الآخر، يواجه بايدن إشكالية كبرى وهى صعوبة إقناع اللوبي النفطي في واشنطن بالحد من إنتاج الوقود الصخري. ومن ناحية أخرى، من الصعب للغاية على الطرفين الاستغناء عن قطاعات ملوثة خاصة في مجال التكنولوجيا في ظل الصراع على الريادة التكنولوجية العالمية بين الجانبين. وعلى منحى آخر، إن الاعتماد التام على الطاقة البديلة في التصنيع والنقل-وإن كان الدولتان تشرعان الآن في ذلك- يحتاج لمبالغ طائلة للغاية ربما تتجاوز التريليونات من الدولارات، ولن تكون باستطاعتها أن تحل محل الطاقة التقليدية خاصة في مجال التشغيل العسكري. وواقع الأمر أيضا، أن قضايا الصراع المتعددة للغاية بين الجانبين كقضية تايوان، وبحر الصين الجنوبي، والحرب التجارية، وطريق الحرير الجديد؛ هي قضايا غاية في التشابك والتعقيد من الصعب للغاية أن يقضى التعاون بين الجانبين في مجال التغير المناخي على أفق الصراع على هذه القضايا. وختاما نقول، إن قضية التغير المناخي ربما ستلطف حدة التوتر بين الجانبين، لكنها لن تقضى على طبيعة هذا التوتر الذى لا يندرج ضمن التنافس، بل صراع وجودي على الزعامة الدولية. ومن ثم، فمستقبل قضية التغير المناخي مرهون إلى حد كبير بمسار الحرب الباردة بين واشنطن وبكين.