08 أكتوبر 2025
تسجيلكان عز الدين موسى، أحد مساعدي تحضير العمليات القدامى، الذين عملوا معي أثناء التدريب، وتعلمتُ منهم كثيرًا من الحيل، يسكن في حي النور البعيد، وكان قد أنشأ في بيته منذ فترة طويلة، عيادةً بمواصفات الحي نفسه، لا غرفة مصبوغة بعناية، لا أثاثًا جيدًا مريحًا، لا كهرباء تبرز الاسم على لوحة مضيئة، ولا حتى طريق نظيف بلا حفر تشقه العربة حتى تصل. وكان قد تعاقب على عيادته تلك عدد كبير من الأطباء الذين عملوا في الساحل، يجلسون عليها سنوات أو أشهرًا، أو أيامًا معدودة، ثم يذهبون. بعضهم إلى تخصص يختاره، وبعضهم إلى هجرة يهاجرها، وقد يترك بعضهم المهنة تمامًا، ويتفرغ لأعمال أخرى مثل التجارة والسمسرة، والعمل السياسي. حدَّثني عز الدين بأمر تلك العيادة بعد أن خلت ذات يوم بحصول شاغلها الأخير، وكان اسمه(الماحي)، على عقد عمل في دولة عربية خليجية، وسافر على الفور، حدَّثني عن ازدحامها الشديد، وزبائنها الذين بلا حصر ويترددون عليها منذ سنوات طويلة، ودخلها الذي لا يتوفر حتى لكبار المتخصصين، أصحاب اللافتات اللامعة المضيئة في وسط المدينة وانسقت خلفه حتى قبل أن أرى الموقع، وأقرر إن كان يصلح عيادة حقيقية أم لا؟ اشتريت مولدًا صغيرًا مستعملًا للكهرباء من هنديٍّ اسمه برد شاندرا، كان من بقايا هنود المدينة الذين قطنوها منذ زمن بعيد، واستعمروا تجارتها خاصة في مجال القماش والحلويات، وتموين السفن، كان يتاجر بالمولدات الكهربائية وآلات التكييف والتدفئة والمراوح، في محل بلا اسم يملكه وسط المدينة، وكان جافًا، وعدائيًا ويقسم بالطلاق ثلاثًا في كل وقت، وعند مناقشة أي مشترٍ، أسوة بالتجار جميعهم، حتى لو كانوا هنودًا بوذيين، وباعني سلعته المستعملة، بمبلغ كبير لم أكن أملكه حقيقة واستدنته من أحد الزملاء القدامى، رغم أنني ذهبت إليه برفقة أحد أقاربه. وجلسنا أنا وعز الدين موسى الذي يعمل أيضًا ممرضًا بالعيادة، إضافة إلى ملكيتها، بعد ذلك أيامًا قاربت الشهر، على كرسيين قديمين من البلاستيك المقشَّر، أمام باب العيادة بلا عمل، نتابع الزحام الذي يتخبط في الظلام أمامنا، ويحدثني عن زبائن بلا عدد سيأتون حتمًا في أحد الأيام، منساقين وراء لافتة النيون التي أضاءت بمولِّد برد شاندرا، لأول مرة منذ أن افتتح العيادة، وكانت اللافتة من قبل، تضاء بالفوانيس، أو تترك بلا إضاءة، وأحدثه عن خيبة الأمل التي أحسها، ولا تفارقني في أي وقت من أوقات يومي، وكان ينهض متوترًا كلَّما لمح ظلًا في الطريق، يقترب منا، أو سمع صراخًا في بيت قريب، أو تعثر أحد المارة بحجر وسقط، ثم يعود إلى جلسته بتوتر أكثر حين يتجاوزنا الظل إلى بعيد أو يسكن الصراخ، وينهض المتعثر من سقطته ويمضي، واضطُر في أحيان كثيرة وتحت وطأة ثقل الضمير أنه ورطني بلا معنى، وأيضًا شح المال عندي وعنده، أن يجوس بقدميه في الحي، يطرق بيوتًا عديدة يعرف أن فيها مرضى مزمنين، ويعرض عليهم خدمات طبيبه الجديد البارع بأجرة تافهة. وكانت ثمة استجابات طفيفة، أو لا استجابات على الإطلاق. وصادف أن جاء في تلك الأيام مندوبون عديدون من مصلحة الضرائب وإدارة الزكاة وشؤون الأيتام والقصَّر، وجمعيات الأعمال الخيرية، سعيًا وراء صيد ثمين، لم يعثروا عليه عندي، وسجَّلوا على أوراقهم ودفاترهم، دخول وخروج عيال عز الدين وأقاربه الزائرين الذين كانوا يستخدمون باب العيادة المفتوح على البيت، في تنقلهم إلى الطريق، وقالوا إنهم حتمًا سيعودون ويسجلون المزيد، ويطالبونني بتسديد ضرائبي الوطنية آخر العام.