14 سبتمبر 2025

تسجيل

النخبة والإستفادة من التجارب الإنسانية

28 يوليو 2012

انتماء مصر العربي والإسلامي والإفريقي ليس مجرد لغو قول، فهي الدوائر الحيوية لعلاقاتها، ولكن ما هي مصر التي نعنيها؟ وهل هذا الانتماء مجرد مشاركة وجدانية، أم أنه مصالح تتلاقى، فالعلاقات الدولية ليست عواطف، ولكنها مصالح، تتوافق أو تتعارض، فيتحدد طبيعة الانتماء وطبيعة منهج التعامل مع تلك الدوائر. وبمعني آخر هل هو انتماء وفق رؤية لمصر تنحاز إليها في عالم متغير، أم هو مجرد شعار أجوف قد تنجرف به مصر لغير مصالحها ومصالح شعبها ومستقبله؟ ضجيج بورصة الأقوال والشعارات في مصر بعد الثورة، أودى بطاقة الثورة حتى اللحظة بعيدا عن أهدافها، وخارج المسار الحقيقي والموضوعي لها، واستبدل الصراع من مواجهة نظام فاسد ومستبد لا يملك رؤية اقتصادية واجتماعية وسياسية لصالح الشعب وفئاته التي تعاني الفقر والجوع والمرض بل والجهل المستهدف بتفريغ منظومة التعليم في مصر من محتواها، إلى صراع مصطنع خارج عن حاجة المجتمع حول سلطة الحكم. استطابت القوى السياسية فكرة الاستنساخ، وتتحدث عن التجربة التركية والإندونيسية والبرازيلية، وأردوغان ومهاتير محمد ورولا دي سيلفا. وفي الوقت ذاته لا تتحدث عن الواقع المصري ومكوناته وهويته، بل تحاول استبدال الهوية وهدم الدولة وإقامة واقع لا يدرك التاريخ ولا يضع في اعتباره الجغرافيا وما تفرضه من مصالح، ومدى تعارض المصالح المصرية أو توافقها مع غيرنا في عالمنا المعاصر، بل إنها تستدعي الشرعية الأمريكية مبررا للوجود المصري، وكأن وجود مصر مرتبط بالرضا الإسرائيلي. انحراف بالسياسية بعيدا عن إدراك للخطر، وحصار للوطن وترتيب عاجز عن إدراك الأولويات الوطنية، فالثورة قالت إن الشعب أولا، ونادت بتحرير الإرادة وبالاستقلال الوطني، لأنه عند تحقق ذلك، وعنده فقط، نستطيع أن نحدد موقفا من أمريكا أو السعودية أو إثيوبيا، الأمر يتجاوز مدى طائرة الرئاسة إلى مدى المصالح ونطاق الأمن الذي نراه، ونطاق النفوذ الذي نريد، ومركز كل ذلك هو وطن وشعب، ورؤية للمستقبل، والتنمية والعدالة الاجتماعية، وهو تجاوز للتصحر السياسي في المجتمع بدلا من استخدام الفقر سبيلا للسلطة. الاستنساخ في العلوم البيولوجية مر بمرحلتين، روائية بداية القرن 19 حول فرانكشتاين، والثانية نهاية القرن العشرين باستنساخ النعجة دوللي. فرانكشتاين صنع جسده من أجزاء آدمية ميتة، وعجزت الطاقة الكهربية المتاحة عندها عن إحيائه، ولكن صاعقة كهربية في ليلة ممطرة مرت بالجسد الميت، حركته وتحول فرانكشتاين إلى وحش قاتل. والنعجة دوللي محاولة بعد قرنين من الزمان لاستخدام الطاقة أيضا وأشعة الليزر لتقسيم نواة حيوان منوي وإنتاج الشبيه أو الاستنساخ بذات الصفات الوراثية. المصدر المشترك واحد وهو الطاقة الفائقة، إن مرت بجسد ميت أنتجت وحشا خارجا عن النواميس الطبيعية، وإن مرت بنواة حيوان منوي أنتجت الشبيه. ولكن ما تفوق على عملية الاستنساخ سواء في أدب الرعب أو في استنساخ النعجة دوللي، هو اكتشاف حبل الجينوم في الخلايا البشرية، فهو مخزن المواصفات البشرية وتكوينها، والفارق هو في حيود طاقة الجزيئات عن الطاقة الواجبة لتحقيق مواصفات الأداء والصحة، وجاءت كاميرا الليزر والفيمتو ثانية لتتيح للإنسان أن يصور الجزيئات ويحدد مدى ما أصابها من حيود، وكان التطور بعيدا عن الاستنساخ، هو الوصول الأولي لحقيقة حبل المواصفات البشرية "الجينوم". المجتمع الإنساني له علومه الخاصة التي لا تقبل الاستنساخ، ولكنها تقبل بدراسة حبل الجينوم الاجتماعي المكون للمجتمع ذاته، أين فقد طاقة الوجود والتحقق، وأين تم حصاره وإهداره، وأين يكمن فيه الفساد، وأين يجب أن تعمل الطاقة الفائقة؟ والتي هي في العلوم الإنسانية الثورة، فالثورة علم تغيير المجتمع. المجتمع الإنساني يفرض على المفكرين المبدعين، وليس تنابلة النخبة الذين يستدعون تنابلة السلطان، الاستفادة من التجارب الإنسانية، وأيا كانت القوانين التي يحاول علماء الاجتماع تفسير حركة المجتمعات، لكن لكل مجتمع سماته الخاصة في تكوين قواه الاجتماعية والإنتاجية، وهويته الثقافية، وتاريخه، وصراع المصالح الخارجية التي تسعى للسيطرة على إرادته. وهناك أيضا الصراع الداخلي، والصراع الداخلي في المجتمعات التي يحاولون استنساخها كان ضد الفساد والظلم الاجتماعي والتخلف، فإن محاولات الاستنساخ لا ترى الوطنية المصرية أصل الصراع ولكنها تراه الأممية الإسلامية، وكأن الشعب المصري قام بإنتاج شبح جديد لفرانكشتاين، وكأن طاقة الثورة الشعبية يجري إهدارها تحت دعاوى لا تحمل المصلحة الوطنية بالأساس ولكنها تهرب إلى جسد جرى تجميعه من قطع ميتة. الخطر الحقيقي هو كسل الإبداع لدى المفكرين والمثقفين وما بقي من نخبة، ويضاعف الخطر اغتراب لغة الحديث عن المجتمع، واغتراب النخبة عن تاريخ هذا المجتمع وحاجاته وتجاربه وأمثلة القدوة فيه. أمر السلطان عبدالحميد بإغراق تنابلة السلطان ليقضي على التواكل والكسل، ولكن الكسل الذي أصاب إبداع النخبة في مصر يهددها بالغرق السياسي والاجتماعي والاقتصادي. إن الحوار حول العسكرية المصرية والقضاء والصحافة والأزهر، والحوار حول الدستور ومضمونه، وأداة صياغته، يؤكد أن الفارق بين قضية التحرر الوطني والاجتماعي في مصر وبين الحوار الدائر، فارق أخدودي لا تلاقي فيه. انقضوا على طاقة الثورة دون إبداع أو استيعاب لأهدافها "عيش ـ حرية ـ عدالة اجتماعية"، فكانوا كمن استدعى شبح فرانكشتاين، ونسوا أن فرانكشتاين قتل من حاول صناعته، واستطابوا ترف شاشات الفضائيات فاستدعوا تجربة إغراق تنابلة السلطان في البحر حتى لا يغرق الوطن في الوحل. الإرادة الوطنية تفرض التغيير ولا تستدعي الاستنساخ، وهي تفرض الحوار ولا تستدعي الجدل الأصم وحوار الطرشان، وهي تفرض إدراك مفهوم الأمن القومي ومفهوم الدولة، ولا تهرب إلى استخدام الحناجر أو الخناجر. لن يقيم الحرية السياسية والعدل الاجتماعي في مصر غير أصحاب المصلحة الحقيقية في تحقيقهما. ويحتاج المجتمع إلى إبداع مفكريه ولا يحتاج إلى لغو القول الدائر حول قضاياه. الخطر المحيط بمصر من خارجها، يتزايد. والخطر في الداخل يكمن في استدعاء شبح فرانكشتاين، ولا سبيل للعودة إلى طريق الثورة ومنهجها بغير إدراك أنها لم تكن انقلابا على نظام حكم، ولكنها تحرير للإرادة الوطنية لإعادة بناء المجتمع، وسبيل العودة لطريق الثورة ومنهاجها هو البناء التنظيمي الجامع لأصحاب المصلحة في تحقيق أهدافها، وبدونه فإن القادم سيبقى صراع حناجر وخناجر لم يكن غاية ثورة الشعب المصري.