17 سبتمبر 2025

تسجيل

حدود الدم والنار!

28 مايو 2013

حدود الدم والنار ليس تعبيرا مجازيا، ولكنه حقيقة تحاول أن تعبر عن مستوى الخطر والصراع في المنطقة التي تحتوي الأغلبية المسلمة من سكان الأرض، وتمتد من الصين إلى المغرب ومن تركيا إلى نيجيريا، هو ذات الصراع القديم، مصالح الغرب الاستعماري، وأبناء الأرض، صراع مصالح بالأساس تعلم منه الطرف الغربي درس مرحلة الاستقلال الوطني، وكيف خسر فيها عددا من المعارك، وتعلم من قبل ذلك أن الدين الإسلامي في هذه المنطقة هو حائط الصد الأخير وأن لب الصراع في عالم ما بعد سقوط المعسكر الاشتراكي هو مع حضارة الشرق الحقيقية وفي القلب منها الإسلام حسب ما قال روبرت جيتس مدير المخابرات المركزية الأمريكية عشية سقوط الاتحاد السوفييتي أول التسعينيات، ووزير الدفاع نهايات بوش وبدايات أوباما. لم يكن جيتس يبدع من عنده جديدا في تحديد العدو ولكنه كان قد تعلم الدرس البريطاني الأول بأن السيطرة في هذه المنطقة تأتي من حاكم مسلم يتحالف مع بريطانيا وينفذ لها ما تشاء، وكانت الإضافة وليس البديل هو زرع الكيان الصهيوني في المنطقة كفاصل بين شرق سيناء وغربها كمركز حيوي للعرب ارض الإسلام ومنبع الرسالة وأصحاب اللغة والقومية الواحدة وحيث تتجمع المقدسات من مكة إلى المدينة إلى القدس ويقع مركز الإسلام العلمي في الأزهر. تفرض المصالح الأمريكية ألا يكون هناك انقطاع معرفي، والمصالح تفرض الاستراتيجيات، والواقع الذي تستهدفه يفرض السياسات والتكتيكات، والذاكرة حية تنمو ولا تتآكل، يضاف إليها ولا تسقط أي من أساليب المواجهة مهما كان تناقضها مع الإنسانية، وكان الإبداع في توظيف "الإسلام" ذاته من عقيدة حق وعدل وسلام وكرامة إنسانية ودعوة للارتقاء بالإنسان، ليصبح عقيدة اقتتال وانقسام وتفكيك، ولتنقل ضمنيا الدم من المحرمات إلى المباح تحت دعوي الجهاد لإقامة شرع الله. لم تبدع أميركا والغرب التباين بين المجتهدين ولا تعدد التأويلات للإسلام ولكنها استخدمتها. واستبدلت إستراتيجية "فرق تسد" معترفة بوحدة الأقاليم والأوطان، إلى إستراتيجية "فتت تسد" لتنال من الأرض "الجغرافيا" بما عليها من بشر، وتحت تعبير المواطنة بمعني تحديد أن الإنسان والعرق واللون غير قابل للوجود في مجتمعه ضمن سبيكة شعب واحد، ولكنه أيضاً فوق الأرض تلك مصالح متعددة ومتابينة، حتى أن أحدهم خرج واصفا الوطنية بأنها عصر "البيادة" أو الأحذية الثقيلة للجنود. واستبدلت دعوة الجهاد دفاعا عن الإنسانية والقيم العليا للإسلام، إلى كونها دعوة حشد أممية، بدأتها المخابرات الأمريكية في أفغانستان، ومولها العرب بالمال والبشر، وكانت أفغانستان المدرسة الأساسية التي أنتجت العنف الأممي بعد أن كان ذلك العنف داخل الأقطار الإسلامية ابن مجتمعها، قاصرا علي من يخرجون عليه تطرفا في الأداء، فلم تشهد أقطارنا العربية تجمعات مسلحة إلا في مواجهة الاحتلال الغربي، وكان يطلق عليهم "الفدائيون" أي أنهم يبذلون الروح فداءا لحرية أوطانهم وشعوبهم، وكانت حركات التحرير ومقاومة الاحتلال ملاحم إنسانية دعمت التماسك الوطني ووحدت الصفوف وكان معيار التقييم إيجابا أن تكون مع حرية الوطن والشعب، وكان التخلف عن ذلك هو الخيانة. كانت البداية في الدعوة إلى "الجهاد" في مواجهة "الإلحاد"، أي أن الأهداف الأمريكية في الصراع مع المعسكر الشيوعي لم تعد عسكرية ولا اقتصادية ولا هي صراع علي السيطرة ومناطق النفوذ، ولكن انقلب ذلك كله إلى دفاع عن الإسلام برعاية أمريكية فوق أرض أفغانستان وبأيدي المسلمين من الأقطار العربية والإسلامية وبالأموال العربية. وامتد الأمر وانتشر بعد ذلك في المواجهات بين الشرق الشيوعي والغرب الأمريكي الرأسمالي، وانتشرت التكوينات والمنظمات المسلحة تحت غطاء الجهاديين الإسلاميين، أما من يوجه ومن يقود ومن يدرب ومن يمول ومن يحمي، فذلك كله خلف ستر سوداء، دخلت فيها لعبة الأمم، وانسحبت الجيوش مؤقتا واندفعت التنظيمات المسلحة تفعل فعلها حسب ما هو مخطط قبل دخول الجيوش أو أثناء ذلك أو من بعده. هكذا غير الغرب وأمريكا من أدواته واستخدم البشر أصحاب الأرض والعقيدة الإسلامية المتحولة والمخصبة من اجتهادات لا ترقي إلى جوهر الإسلام، لتتحول إلى عقيدة قتل وعنف بديل عقيدة دعوة وفكر، واستخدمها في تدمير الكيانات الوطنية والقومية التي ظلت متماسكة طوال فترة التحرر الوطني من الاستعمار القديم، وصار الصراع بين الإيمان بالرعاية الأمريكية والكفر والإلحاد الوطني، لينهار التاريخ مع تفتيت الأرض. ولكن من يستحضر العفريت قد لا يملك أن يصرفه، وهو ما حدث، وتم صدام بين بعض من هذه التكوينات وأمريكا واخذ صورا متعددة، ليظهر تعبير "الإرهاب الإسلامي"، ولننبري في محاولة الدفاع عن النفس، ولكن ما نلبث أن تنالنا شظاياه، ويصبح ملأ الاعين ومن حولنا يتهدد وجود امتنا ذاتها. نحن نرفض تعبير الإرهاب الإسلامي، ولكن ما هو التعبير البديل، هل هو الإرهاب المتأسلم، أم هو فيالق الإرهاب الأمريكية، أم هم جند السي آي أيه بدلا من جند الله. وأنتجت الآلة الأمريكية والغربية بديلا جذابا آخر على التوازي مع آلة العنف، وهي تلك التنظيمات تحت عنوان "حقوق الإنسان"، والمنظمات غير الحكومية، وكانت تلك التنظيمات في وجودها هي نقاط تسريب المفاهيم الأيديولوجية التي حكمت النضال الوطني والقومي، وكأن الاستنساخ صالح لكل مكان وزمان، وصارت حركات حقوق الإنسان تؤدي دورا في مواجهة الاستبداد الداخلي، ولكنها لا تملك أن تواجهه بحل بعيدا عن منابع الإمداد والتمويل الخارجي، وأصبح لها في إستراتيجية التفتيت دور وإن جرى تغليفه بحقوق الإنسان. كان مشهد استقبال الجنود السبع الذين جري اختطافهم في سيناء يحمل عنوان "أوجه البهجة المستعارة"، فالكوكبة التي تستقبلهم تحمل فوق وزر اختطافهم أوزارا أخرى أكثر خطورة وأشد تنكيلا بالوطن والشعب. فخلفهم جميعهم عار تحول مصر إلى حاضنة للإرهاب، ويدفع الشعب والمستقبل ثمنه، وخلفهم عار قتل واعتقال شباب الثورة، ولم يعن احد أن يدافع عمن وضعوا حياتهم ومستقبلهم فداءا لتغيير وجه مصر، وخلفهم عار اختطاف الثورة ذاتها، وتحويل قرار السلطة في مصر لصالح فيالق الإرهاب الأميركي، وكأننا نسمع أمل دنقل يصرخ بالمختطفين "كيف تنظر في يد من صافحوك.. فلا تبصر الدم.. في كل كف؟". كان المشهد دليل إدانة أكثر منه دلالة إنجاز، فالأمر ليس من نجح في تحرير هؤلاء المختطفين، ولا هو كيف تم ذلك، ويحضر هنا قول والد احد المختطفين "أعيدوا إلى ابني شهيدا لأدفنه، ولكن اقضوا بكل حزم وقوة علي العصابات الإرهابية في سيناء"!، هكذا كان الأب البسيط والذي لا يتولي سلطة، ولا درس إستراتيجية ولا يملك قوات مدججة بالسلاح والمعلومات، ولا يمتلك حتى الحيلولة دون الاعتقال والسجن من شرطة تحولت إلى كيان إرهابي إخواني جديد، كان الأب أكثر وعيا منهم، وأكثر إدراكا بالخطر وكأنه يردد علي مسامعهم قول أمل دنقل ثانية "إن سهما أتاني من الخلف سوف يأتيك من ألف خلف". الإرهاب الذي فرض علينا مواجهته لا يتوقف عند عدد من التنظيمات أو الجماعات، إنه يمتد من الانحراف الفكري بالإسلام "الإرهاب الفكري"، ويتخطي هذه الكيانات التنظيمية إلى من يقف وراءها "الإرهاب الأميركي"، وان ندرك أن إستراتيجية التفتيت ليست وهما بل هي حقيقة واقعة فوق الأرض وتتجاوز تكتيكات سابقة للحفاظ علي المصالح الغربية بالمنطقة وأمن إسرائيل، وان حدود المواجهة تمتد متجاوزة الحدود الوطنية والإقليمية إلى منابع الإرهاب ذاته، تسليحا وتمويلا وتدريبا وتجنيدا، وان امن سيناء يبدأ من هناك في أفغانستان ومالي والصومال، وان اتساع ميدان المواجهة لا يعني القبول بادعاء الحرب الدولية ضد الإرهاب، أو تحويل الجيش الوطني المصري إلى جيش عقيدته مواجهة الإرهاب، ولكن اتساع المواجهة يتطلب: 1. وعي وإدراك بالمضمون الحقيقي للإسلام، وعدم الانجرار إلى حوارات وتأويلات تأخذ منه، وتحمله بأهواء ورغبات وخطط لا تنتمي إليه ولا هي لصالح الوطن. 2. حكم وطني يعي التاريخ والمصالح والشعب، يدرك المخاطر الخارجية والادعاءات الداخلية، يدرك أن وجوده غير أبدي وأن الوطن والشعب هو الباقي. 3. عدم الفصل بين جماعات الإرهاب تحت اسم الإسلام وبين الخطط الأمريكية لإستراتيجية التفتيت. 4. إدراك أن حدود الأمن القومي المصري تمتد من المغرب العربي إلى العراق، ومن سوريا إلى اليمن، وان الخطر علي الصومال ودارفور والجزائر ومالي وليبيا وتونس وسوريا هو مماثل للخطر في سيناء ومرسي مطروح. 5. أن المواجهة مع الإرهاب تتطلب جبهة داخلية متماسكة بالوعي، وبعيدا عن الخداع باسم الدين، أن هذا الأمر يستدعي دورا واضحا للأزهر وللمثقفين. وأن مدخل الوعي يبدأ من العدل الاجتماعي. 6. أن مواجهة الإرهاب ليست مواجهة مع الإسلام ولكن حقيقتها مواجهة لصالح الإسلام. 7. أن مواجهة الإرهاب الأمريكي بأدواته من الجماعات المتأسلمة، يبدأ برفع الإرهاب الداخلي من السلطة ضد مكونات الشعب الحقيقية، أن الأمن الوطني وهو يعيد انتماؤه للسلطة يستدعي الأسباب التي أدت إلى يناير 2011 وهو يخلق مناخا لتزايد الإرهاب الديني، وأساليب القتل التي دخلت علي مجتمعنا منذ السبعينيات وها هي تملأ الساحة ضجيجا بالفخر بقتل رجال الشرطة، والأمن الوطني يضع نفسه أداة قمع لسلطة تحتضن الإرهاب. 8. أن المهمة مهمة عمل مشترك بين أجهزة المخابرات العامة والحربية والجيش، وان كل محاولات النيل من هذه المؤسسات هي إضافة ودعم لحركة الإرهاب. إن حدود الدم والنار تتسع وتفرض أن يكون هناك رجال تتناسب إحجامهم وحجم الخطر، الوطن ليس في خيار بين أسماء أو تنظيمات تحكم، الوطن في خيار بين أن يبقي موحد الأرض والشعب وقادر على الدفاع عن أمنه، وبين العدم.