12 سبتمبر 2025

تسجيل

الشخصية الموحية

28 مايو 2012

في الأيام الماضية عاد إلى الظهور مرة أخرى شخص كان قد اقتحمني في ما مضى واستوحيت منه إحدى شخصياتي المؤثرة في رواية زحف النمل، أيضا وأنا أشاهد مراسم دفن المغني الرائع نادر خضر، رحمه الله، وقعت عيناي على شخص كنت قد التقطته في الماضي، واستوحيت منه شخصية مؤثرة كذلك في رواية أخرى. بالطبع لم أكتب هاتين الشخصيتين، وغيرهما من الشخصيات التي ألتقطها من الواقع، بنفس مواصفات وجودها في ذلك الواقع، ولكن لا بد من تغيير ما، تطوير آخر يخدم النص، ويدعم اتجاهات الكتابة، ولو صيغت الشخصيات كما هي  لانتفت صفة الصنعة من نصوص الإبداع، ولأصبح مجرد رصد نثري عادي. لكن كيف تكون الشخصية موحية؟ ولماذا شخصيات مؤثرة تتقافز في ذهن الكاتب خلافا لشخصيات أخرى ربما يعرف تفاصيلها أكثر؟ هنا لا توجد إجابة محددة، ولا يعرف الكاتب بالتحديد لماذا هذه الشخصية، وليست تلك، الكاتب بالضرورة شخص عادي في حياته اليومية، وتصادفه عشرات المواقف، يصادفه عشرات الناس، وهو بالضرورة ملم بكل ما يحدث في عالمه العادي، وحين يجلس لكتابة نص، يجلس بوصفه كاتبا، تأتي التقاطاته التي يسمح له النص بها إلى الورق، من دون أن يعرف السبب، وفي تجارب سابقة لكتابة نص بحثي، أو نص قائم على شخصيات معروفة، لأسباب عدة، جمعت عشرات الصفحات والمعلومات عن تلك الشخصيات، أو تابعت حياتها إن كانت قريبة مني، وجلست لأكتب، ولم أستطع ذلك، ودائما ما أضرب مثلا بالآسيوي الذي يمشي عشرات الكيلو مترات يوميا على قدميه، ويأتي إلى عيادتي ليصيح بأن قدمه مكسورة ولا يستطيع المشي. لقد صنفته بوعيي، شخصية أسطورية، صوته الغريب، ثيابه الملونة بشكل عنيف، ذلك الراديو متوسط الحجم الذي يحمله دائما، والحقيبة الجلدية الممزقة التي لم تفارقه أبداً لمدة سبعة عشر عاما، والتي قام بفتحها ذات يوم، وكانت فارغة. لم أستطع كتابة تلك الشخصية، برغم كل ما ذكرته من إيحائها، ذلك ببساطة أن لا نص تشكل بداخلي عنها، وربما يأتي يوم لأجدها فجأة في إحدى الروايات، وفي الأسبوع الماضي تحدثت عن رسائل حب عثرنا عليها ونحن طلاب في المرحلة الثانوية، أواخر السبعينيات من القرن الماضي، استمتعنا بلغتها المتأججة والخط الرائع الذي كتبت به، وتوزعناها في ما بيننا، وانتهى أمرها ونسيت، وأجدها فجأة تأتي إلى نص مكتمل الأركان بعد أكثر من ثلاثين عاما. إذن، الكاتب لا يملك حقيقة شخصياته الموحية، ولا يستطيع أن يحددها سلفا، ويقوم بإعادة إنتاجها في نصوص، ليس كل كاتب بلا شك، لأن هناك كتابا يستطيعون ذلك، ولكن يستطيع القارئ المتمرس على القراءة ملاحظة الخلل الناتج عن كون تلك الشخصية رسمت بعنف، ولم تترك لتأتي وحدها. أقصى ما أتمناه أن تأتي تلك الشخصيات التي أحببتها على الواقع، تأتي في نصوص بسهولة، وأعتقد حقا أنها خسارة كبيرة، أن يعبر ذلك الآسيوي غريب الأطوار بكتابتي من دون أن يدخلها، وكذا آخرون بنفس المستوى من الغرابة.