12 سبتمبر 2025

تسجيل

لا عمر ولا عثمان

28 مارس 2021

أرثي زمانك يا أبي، وزمان جدي وجد الجد ومن كانَ، ضاع الرجاء يا رسولي وصحبه أبناء أمتك لا عمرَ ولا عثمانَ. يتكبد المجتمع وطأة جيل أملد أجوف أرعن نأى بعيدا عن الأخلاق والشهامة والمروءة التي كانت دستورا للتربية الحقة، وعمادا للتنشئة الفضلى وصكاً يوثق تخريج النشء ليواجه متقلبات الحياة المتباينة بمبادئ ومعايير أخلاقية راسخة لا تعبث بها رياح التغيير الجافلة. جيل اتخذ معظمه من الاتكالية والأنانية وسما له، وتدثر بغطاء الحرية الشخصية الزائفة، واستوثق بكل رؤية حديثة عوجاء، وانكب عليها كما تنكب البهيمة على طعامها فلا تميز غثه من سمينه، فبالغ همها أن ترضي نهمها وتشبع حاجتها. ولست هنا أحمل هذا الجيل كامل المسؤولية، فالجزء الأكبر من اهمال مسؤولية هذا الجيل وضياعه يقع على بعض الآباء الذين نبذوا أدوارهم وتملصوا من تعهداتهم العظيمة. فالآباء لا يقلون شأناً عن أبنائهم في استسهال التسليم لآفات العصر الحديث، وتأثيراتها اللامحدودة عليهم، بل أضحى شماعة للآباء ومرهماً مخدراً يسكن إحساس التقصير الذي يخالجهم طوال الوقت. ولا ننسى أن نشير هنا إلى أن هذه الآفات من الألعاب الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي والمحمول وغيرها دخيلة على الأسرة، التي يفترض أن تكون حصناً منيعاً يحفظ الأبناء من كل دخيل قد يزعزع عقيدتهم ومبادئهم وأخلاقهم، ولا شك أن الأمواج عاتية، ومخالبها دامية، يتعذر مجابهتها أو ردعها، وقد تؤدي الاستجابة الكاملة لها وترك الأبناء في براثنها إلى الغرق، فالمقاومة ضرورة والرقابة حاجة وقائية لا بد منها. ومما ساهم في وهن معظم ابناء هذا الجيل العاطفة المفرطة عند الآباء، الأمر الذي أبطأ نضوج الأبناء، فالحرص الزائد والإفراط في الدلال واللين والرعاية الزائدة لا تخلق شباباً قوياً يعتمد عليه بل إن نتائجها تظهر وبشكل جلي بين بعض شرائح المجتمع، حيث استرجلت الفتيات واستأنث الذكور!. ولقد ارتضى بعض الآباء الخضوع والتسليم كأسلوب لاختزال المشقة التي يكابدونها في تربية الأبناء، إذ إن أسهل الطرق لشراء الراحة هي الاستسلام للصعوبات والخنوع لها، وتناسوا أنهم سيجنون حصاد ما زرعوه. وعجبي لآباء يتفاخرون بإنجاب الأبناء الذكور منهم والإناث ثم لا يشكرون الله على نعمته فيتقون الله في تربيتهم!. فكثيرا ما يُترك الأبناء دون توجيه أو حزم، مهابة أن تتأثر نفسياتهم، أو مخافة أن تصيبهم العقد النفسية، ثم يترقب الآباء أن يكبر الأبناء فيصلحوا من ذات أنفسهم! ولم يدركوا أنهم بذلك يفسحون المجال لعاداتهم السيئة وممارساتهم المغلوطة وأفكارهم الملوثة وسلوكياتهم المضطربة أن تتأصل وتنمو فيصعب تغييرها أو التعامل معها. وكيف لا يذعن آباء نبذوا التزاماتهم ولاذوا فراراً ليعانقوا هواتفهم وأجهزتهم فيأخذوا نصيبهم من ذلك الإدمان، وتلك اللذة التي توفرها لهم مختلف التطبيقات التي تستهدف الجميع فلا تبقي ولا تذر!. ناهيك عن أوقات أمتع وأجمل يقضونها بين المقاهي والمطاعم بصحبة الأصدقاء والانشغال بالحياة الاجتماعية وممارسة الهوايات والسفر والبحث عن الجمال، فقد يجدون الوقت لكل شيء يشتهون إلا الأبناء!. ولا ننكر أن تقهقر السيطرة وتطبيق مبدأ الحرية الشخصية البحتة للأبناء كان باعثاً قوياً لاندثار قيم عظيمة، كالإيثار والتضحية ومراعاة شعور الآخرين والإحساس بالمسؤولية، وكذلك ضمور الروابط الأسرية المتينة، إن تكرار الآباء لمثل هذه المبادئ البعيدة كل البعد عن تعاليمنا وتقاليدنا وأعرافنا يساهم في تأصلها في نفوس وعقول أبنائنا فمن منا يعيش حرية مطلقة؟! فجميعنا ملتزمون بأمور ديننا ودنيانا، بداية باتباع أوامر ونواهي الخالق عز وجل، وتقيدنا له بالعبادة والطاعة، وامتثالنا بالقيم والأخلاق التي دعانا إليها حبيبنا ونبينا وشفيعنا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث نقبل عليها بحب مستسلمين لله قولاً وعملاً، ونهاية بارتباطنا بالعمل وقوانينه، وأحكام وأعراف المجتمع، وبالمسؤوليات والواجبات والتكاليف الأخرى تجاه أنفسنا والآخرين، فإذا لم نكن حازمين فيما سبق فهل للغض الغرير أن يقبض على دينه وأخلاقه وعمله ويفي بالتزاماته؟! كيف وقد أفعم بمفهوم الحرية البحتة، فأصبح لا يطيق قيداً ولا يتحمل حدودا ولا يتكلف صبرا. إن من المؤكد أن الزمن يتغير والأحوال تتطور وهذه طبيعة كونية، يستحيل إنكارها، غير أن الأخلاق الواجبة شرعاً وإنسانياً لا تتقاطع مع التطور والتقدم، فيتحتم على الآباء أن يلزموا بها الأبناء قدر المستطاع، ولا يؤثر في اقتضائها تغير الزمان، فالإنسان هو الإنسان لا يتغير في مشاعره وإحساسه وحاجاته، إنما يحدث التغير في تفاوت ودرجات الجوانب الآنف ذكرها، حيث إن جوهر الإنسان لا يتغير وإن تبدل الكون من حوله. وبجانب ما ذكر فإن قلق بعض الآباء من أن يكون الأبناء امتدادا لهم ورهبتهم من تأثيرات القسوة عليهم فتركوا لهم الحرية على مصراعيها، وأبقوا لهم التفرد والخصوصية المبالغ فيها وتنحوا عن أدوارهم التي تتخطى توفير حاجاتهم الأساسية، مما جعلهم فريسة سائغة للمؤثرات الخارجية، فمالوا لأصدقائهم واتبعوهم حتى أضحوا "كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً"، وتعلقوا بعادات غريبة وقيم دخيلة أفسدت فطرتهم فضلوا سبيلهم واتبعوا أهواءهم وتتبعوا كل ناعق أعوج فأصبح قدوة لهم، وساروا خلف كل مشوه فأصبح أسوة لهم، لا يتدبرون في ذلك ولا يتفكرون ولا يعملون عقولهم، وإن خالف عقيدتهم وأعرافهم، فهم ماضون خلفه كالثور يدور في الساقية. وماذا جنينا بعد كل هذا؟ فها نحن نحصد نتاج سوء التربية والإهمال والاستسلام والإذعان، ها قد برز هذا الجيل وكشف عن تمرده واعتداده برأيه ورعونته وتسويفه ضاربين بالآباء عرض الحائط فلا يقيمون لهم وزنا ولا تقديرا ولا احتراما. إننا بحاجة إلى انتفاضة الآباء واستفاقتهم استفاقة حقيقية مدوية، لينقذوا ما يمكن إنقاذه من هذا الجيل والسائرين خلفه، ولتكن تربية الأبناء وإفراد الوقت لهم على رأس الأولويات ومحاولة إحكام السيطرة في مستوياتها المعتدلة والقسوة في محلها إن لزم الأمر ذلك، والتحكم بالعواطف والمشاعر المفسدة التي لم تورث سوى الخنوع والهوان والجحود والنكران وعدم الوفاء لفضل الآباء، والالتزام بقوانين الأسرة والمنزل والآداب والأخلاق والابتعاد عن التهاون في تطبيقها فلا تهدد وتتوعد وتزمجر ثم لا تفي بوعودك!. فالعقاب غايته التهذيب والتقويم، ولو كان غير ذلك لما رأيت جميع أنظمة العالم تستعمله لتردع كل السلوكيات الشائنة. ولا يترك الأبناء فيفعلوا ما يشتهون لا يَسألون ولا يُسألون، فالتربية ليست عملية فطرية عفوية، بل تحتاج إلى جهد وعمل ومثابرة، كما أن المسؤولية تتطلب التفرغ للأبناء فلا ضير من ممارسة هواياتنا معهم، وإيجاد اهتمامات مشتركة، ولا ضرر في اصطحابنا لهم بغية توثيق صلاتنا بهم فتتعزز ثقتهم بنا وتقديرهم واحترامهم لحرصنا عليهم. وأرى أن يمنح الأبناء قدراً مناسباً من الحرية تسمح لهم بالانتقاء وممارسة الهوايات والتبضع المعقول حسب ميولهم وأذواقهم والمشاركة في اختيار أماكن الترفيه والسفر.. وغيرها، وإبداء الرأي بأسلوب مهذب وأن نستمع لهم ولانتقاداتهم وليس بالضرورة الأخذ بها جميعها. وليس هذا وحسب، بل إن مناقشة الأبناء في مواضيع فكرية متنوعة تشحذ تفكيرهم وتثير عقولهم وتوسع مداركهم وترفع درجة الوعي لديهم، كما لها عظيم الشأن في التأثير على معدل مستويات التفكير فتنقلهم من مستوى التفكير السطحي المتعلق بتوافه الأمور الى مستوى التفكير العميق المركز. وليعود الآباء أبناءهم من الصغر على تولي مسؤولية الأسرة أولاً وعدم الاتكالية عليهم في كل شيء، ثم البدء في منحهم بعض المسؤوليات الخارجية، ويا حبذا لو يلتفت الآباء نحو تنمية المهارات القيادية في نفوس الأبناء، فينشؤون على روح المبادرة والإقدام. إن الحديث هنا يطول ويتشعب، وأعتقد بأنكم تلامسون واقعاً مريراً يتحتم علينا أن نستنفر وننتفض ونقف جنباً إلى جنب لنحاول أن نخلق جوا عاما أكثر أماننا لأبنائنا، فالمسؤولية عظيمة والخطب جلل، تستدعي أن يقوم الآباء بأدوارهم مع أبنائهم وأبناء غيرهم فقديماً كان الأب أباً للجميع، ما لا يقبله لأبنائه لا يقبله لأبناء الآخرين، فيتدخل بالنصيحة والكلمة الحسنة إن رأى خطأ أو هفوة أو تقصيرا، كما أن الأهالي كانوا متعاونين فلا يستاؤون من ذلك، وإن تذمر الابن شاكياً، لم يشدوا على يده، بل شكروا من وجهه وأرشده، هذا هو المجتمع المتكاتف المسؤول، والذي نتمنى أن يعود يوماً ما، وسيعود إن شاء الله برغبة وإرادة كل مربي ورع حريص على أبنائه، غيور على أبناء الوطن. [email protected]