02 أكتوبر 2025

تسجيل

‫تجارب

28 مارس 2013

‫كانت الواحدة صباحا عندما فككنا الأحزمة، وتهيأنا للنزول في مطار الخرطوم. كنت قادما من بلدتي الساحلية، ذلك القدوم الذي يتكرر من حين لآخر، لقضاء مهمة ما، أو التنفض من إقليمية العيش والتنزه في العاصمة من سينما «كوليزيوم» إلى حدائق المقرن، وشارع النيل.. وربما جرني جوع مسائي لتناول طبق من الفول اللذيذ عند «أبي العباس» العريق. كان الجو خريفيًّا ناعمًا.. فراشات من مطر بلوري تلامس الوجه والجسد ثم تفر، وهواء نظيف يهدهدك حتى تنام واقفًا.. كانت الواحدة صباحا.. ساعة مضت على بدء حظر التجول الذي كان سائدًا في تلك الأيام. ألقيت نظرة على مبنى المطار الشبعان بأنفاس القادمين والذاهبين والعاملين والموجودين بلا سبب، وكان من المستحيل قضاء ساعة واحدة في وسط ذلك الزحام، ورغم أنني لم أكن من هواة التنقل في تجول محظور إلا أنني قررت الذهاب.على باب المطار كانت عربات التاكسي أغزر كثيرًا من متاع المسافرين، في كل مكان زرته لم أجد مهنة أشد إيذاءً وإيلامًا للشعور من مهنة «تاكسي المطار».. كان المسافر في نظر تلك المهنة خارجًا على القانون، تصادَر أملاكه وهداياه، وتبغه، وأشواقه إلى ذويه، وقد تمتد إلى جيوبه السرية لتبدل عملاته الصعبة في سوق أشد قسوة من السوق الرسمية. كنت أهيئ نظري لالتقاط سيارة حسناء من نوع «الكرسيدا» أو «الكراون» أو «929» على أقل تقدير، وذلك حتى أصادَر من قبل سائقها عن طيب خاطر، لكن تلك الفرصة لم تأت أبدًا، فقد وجدت جسدي وحقائبي ونظرتي المهيأة، كلنا، محشورين في سيارة «هنتر» متهدمة.. وانتبهت إلى السائق، كان عريضًا جدّا، ربما أعرض سائق تاكسي أصادفه في حياتي، لدرجة أن مقعده من شدة ضغطه على المقعد الخلفي، ألغى وجوده تمامًا.- ألم تسمع بأحمد ترينتي؟ خاطبني السائق وضغط على كتفي الأيسر حتى ولولت عضلاته..- أنا أفضل من يقودك في حظر التجول وفي غير حظر التجول، كل نقاط التفتيش تعرفني ويرتجف العساكر عند رؤية سيارتي، حتى قطاع الطرق في خور «أبوعنجة» يفرون حين يشمون رائحتي، سترى الآن بنفسك.قلت وقد شعرت بالقلق: ألا تحمل تصريحًا؟كشّر في وجهي بعنف:- لا أحد يسأل ترنتي عن تصريح.. مَن المجنون الذي يفعل ذلك؟ كلهم يخافون على أنوفهم وأسنانهم.. ولكن مع ذلك فمعي تصريح كنوع من الروتين لا أقل ولا أكثر. ثم أشار إلى طبق من «الطلس» على يمينه، وضعت بداخله ورقة التصريح.مررنا بعشر نقاط تفتيشية، كان السائق العريض يتوقف كأي سائق، يمد يده اليمنى، يلتقط التصريح، يريه لفوهة السلاح المصوب، ثم يعيده إلى مكانه، وعندما ننصرف، يلتفت إليّ بغطرسة، يقول: هل انتبهت؟ هل رأيت كيف كان الرجل يرتجف؟وأبحث في ذهني عن خوف أو رجفة أو اصطكاك أسنان صدر من خلف البنادق المشرعة، فلا أرى.في النقطة الحادية عشرة كنت قد ابتللت بصلفه حتى القدمين، وقررت أن أضع حدّا، مددت يدي إلى وعائه الطلس، من دون أن ينتبه، أخذت تصريحه الداعم للصلف، ووضعته في جيبي وعندما توقف وبحث ولم يجد التصريح، كان أحمد ترنتي السائق العريض جدّا، الممتلئ عضلات وصلفًا والذي أخاف قطّاع الطرق في خور «أبوعنجة»، مجرد خارق عادي للقانون، عرقان، ولاهثًا، وزاحفًا على يديه وركبتيه، يبحث عن كلمة يرد بها على «هرشة» السلاح، وعن تصريحه الذي كان مجرد روتين لا أقل ولا أكثر.