16 سبتمبر 2025
تسجيلتوضح دراسة حالة تونس مدى خطورة تقييد حرية الإعلام ، فلقد فرض النظام التونسي كل أنواع القيود على كل وسائل إعلامه ، بالإضافة إلى تقييد كل أشكال الاتصال الشخصي والجمعي . ولقد أبدع نظام بن على في تقييد حرية الإعلام في تونس ، فكان تنوع القيود بديلاً عن تنوع الرسائل الإعلامية ، والمضمون المقدم للجماهير . وكانت هذه القيود المتنوعة التي طبقها بن علي على وسائل الإعلام التونسية مستمدة من أكثر النظم الإعلامية تخلفاً وهي النظرية السلطوية . وارتبط تقييد حرية الإعلام بإطلاق يد أجهزة الأمن لقهر المواطنين ونشر الخوف والتجسس وكتابة التقارير الأمنية وانتهاك حرمة الحياة الخاصة وحقوق الإنسان . أدى ذلك إلى فرض حالة تعتيم إعلامي على الواقع التونسي ، بينما كانت وسائل الإعلام تقدم واقعاً تونسياً مصطنعاً وغير حقيقي . وفي ذلك تشترك وسائل الإعلام التونسية مع الكثير من وسائل الإعلام العربية في عملية تصنيع واقع زائف ، وتجاهل الواقع الحقيقي ... لكن في النظام التونسي تطورت عملية تصنيع الواقع الإعلامي الذي يتناقض مع الواقع الحقيقي ... وفي خلال هذه العملية انكسرت الحدود بين الإعلام والدعاية ، واختفت القيم المهنية ، وتم تقييد كل الحقوق الإعلامية والاتصالية والمعرفية للشعب التونسي . لقد أصبح الهدف الرئيسي لوسائل الإعلام التونسية تسويق بن علي ونظامه وتمجيده حتى أن صحيفة الصباح التي يملكها صهر بن علي نشرت 48 صورة لبن على في عدد واحد . وقد أشار محمد حسنين هيكل إلى اهتمام بن علي بصورته الشخصية المادية ( الفوتوغرافية ) ، وأن هيكل قد قال له : إنه يبدو شخصياً أفضل كثيراً من صورته التي تنشرها الصحف ، وعلى إثر ذلك طلب بن علي استدعاء أفضل المصورين من باريس ليقوم بالتقاط صور له تتناسب مع جمال طلعته . واعتبر هيكل ذلك دليلاً على سطحية بن علي وتفاهة تفكيره . وبالرغم من صحة ملاحظة هيكل إلا أن ذلك يشير أيضاً إلى اتجاه ساد في العقدين الماضيين في عملية التسويق الاجتماعي والدعاية حتى في الولايات المتحدة الأمريكية ، حيث يتم التركيز على صورة الرئيس ، أو صورة المرشح الشخصية بدلاُ من التركيز على أفكاره وآرائه وبرنامجه ومؤهلاته العلمية . وقد أثبت هذا الاتجاه نجاحاً في حالة الرئيس الأمريكي كلينتون حيث جذبت صورته أصوات النساء في الولايات المتحدة نتيجة لإعجابهن بصورته الشخصية ... وحتى بعد فضيحة مونيكا زاد إعجاب النساء به . لذلك اتجه الكثير من خبراء الدعاية والتسويق الاجتماعي إلى استخدام الصور الشخصية للمرشحين والرؤساء كعامل أساسي في تشكيل الاتفاق العام والهندسة الاجتماعية . أما في حالة أوباما فقد تم تطوير هذا الاتجاه لاستخدام الصور التلفزيونية الإنسانية كبديل عن البرامج والأفكار . وحالة بن علي لا تختلف عن اتجاه الرؤساء العرب لاستخدام وسائل الإعلام في نشر صورهم الشخصية ، لكن نظام بن علي بالغ بشكل كبير في هذا الاتجاه ، حيث أصبح مضمون وسائل الإعلام التونسية يتمحور حول صورة بن علي ، والتي انتشرت بشكل واسع في الميادين وعلى واجهات المؤسسات حيث كان هناك نوع من التنافس المحموم بين المؤسسات الحكومية على رفع أكبر صورة لبن علي على واجهاتها . هذا الاتجاه يتناقض مع الحضارة الإسلامية ويشكل تحدياً لثوابتها فهو يشير إلى تأليه للحاكم ، وهذا بدوره يشكل صدمة للضمير الحضاري الإسلامي والمشاعر الإنسانية الإسلامية ، وهذا يفسر اتجاه المظاهرات إلى تحطيم صور بن علي الضخمة المرفوعة في الميادين وعلى واجهات المؤسسات ارتبطت هذه العملية أيضاً بعملية تجهيل الشعب التونسي وذلك يمنع نشر الكثير جداً من المعلومات عن الواقع Disinformation التونسي ، وفي الوقت الذي قامت فيه وسائل الإعلام بإغراق الشعب التونسي بالحديث عن إنجازات النظام ومعدل التنمية الذي حققه . وقد أدى ذلك إلى أن تفقد وسائل الإعلام التونسية مصداقيتها . يوضح ذلك أن عملية التجهيل ارتبطت بعملية استخدام وسائل الإعلام لتضليل الشعب التونسي وذلك بنشر الكثير من المعلومات التي تهدف إلى تصنيع Misinformation الاتفاق الزائف وإلهاء الجمهور عن مشاكله الحقيقية .وقد اعترف بن علي في آخر خطاب له قبل هروبه أنه قد تم تضليله ، ونحن يمكن أن نصدقه في ذلك حيث إنه فصل نفسه عن شعبه وأصبح المصدر الأساسي له هو الوسائل الإعلامية التي تنقل فقط ما يرضيه ، وما يكتبه إعلاميون خائفون أو منافقون . ومن المؤكد أن تلك المعلومات التي تنقلها له وسائل الإعلام تسعد الرئيس ونظام حكمه لكنها تخفي الحقائق عن سخط الناس الذي يتجمع حتى ينفجر في ثورة شعبية . حالة تونس توضح أن حرية الإعلام صمام أمان ،وأن التحكم في وسائل الإعلام يمكن أن يخفي الواقع الحقيقي ويصنع واقعاً زائفاً ويؤدي إلى تزايد حدة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية .