11 سبتمبر 2025

تسجيل

توازن الضعف وقواعد الاشتباك

27 ديسمبر 2011

الدم المسال على الأسفلت في مصر، هو ثمن لصراع بعيد عن ثورة الشعب ويقين الشباب، هو دم مهدر نشأ عن محاولات لإجهاض قيمة تحرير الإرادة، هو دم يستدعي الثأر، وقد يظهر للعيان أن هناك ما هو أخطر من الدم المسال، ويمثله اجتراء على القيم والأخلاق، وتهافت على الدعة والسكون، وظهور غير مبرر لقوى اقتنصت الثورة ونتائجها لذاتها دون أن تطرح على الشعب رؤية غير السيطرة على إرادته بالدين، وبدلا من أن يكون الدين ملهما للتحرر، استخدموه كالأفيون مغيبا لإرادة الشعب. البحث في حقيقة من المسؤول عن هذا لا يحدد طرفا واحدا ولكنه يشير إلى الجميع، وإن اختلف حجم ما يتحمله كل منهم من مسؤولية. هناك من يشير إلى أن مغادرة ساحة الميادين يوم 12 فبراير هو السبب فيما وصلت إليه الأمور. وهناك من يحمل النخب التي كانت تتصدر المشهد أنها تعاملت في أمر الثورة واحتياجاتها برعونة ولم تكن بالأصل مستعدة وعيا وإرادة للاستجابة لمطالب الشعب في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، بل انساقت إلى دروب فرعية هي أقرب إلى الإعلان عن الذات، دون أن تختار طريق التغيير وهو غير مستحيل إن خلصت النوايا وإن تبلورت الإرادة صار من الممكن تخطي مخاطره وصعوباته مهما كانت. وهناك من يحمل الأمر كله للمجلس العسكري الذي أثارت أفعاله شكوكا في البدايات عندما أتى بلجنة الشيطان التي تولاها البشري فانحرفت بكل منطق ممكن لمعنى الفترات الانتقالية وكانت عصا غليظة ضربت إرادة الشعب بالخداع فيما سمي بالتعديلات الدستورية، وثني على ذلك باستدعائه تنظيمات دينية من خارج الواقع المصري وتضاريسه السياسية سالكا بذلك سلوك السبعينيات الذي اتخذه السادات في مواجهة الحركة الوطنية التي صنعت الزخم الشعبي لفترة الإعداد للتحرير، إنتاجا وقتالا، وشكل في مواجهتهم تنظيمات دينية تلعب لعبة شق الشعب إلى ديني وكافر، وكان المجلس العسكري والمستشارون المحيطون به في هذا كما يقولون "حافظ مش فاهم". وتجاوزت الأمور حد الشك عندما أصيب المجلس بجنون القوة ومس الشيطان وعيه بحالة من جنون "الانفراد بالوطنية المطلقة" فقتل وسحل وانتهك قيما أسقطت قيمة أنه مجلس محترف لصالح الوطن، فصار عرضة لتجاوز العقيدة التي أطلقت يوما شعار "الجيش والشعب يد واحدة"، بل وضع نفسه بالكذب محل الريبة في إمكانية الوثوق به، وهو ما يعني الهزيمة الداخلية قبل الاشتباك مع العدو الخارجي الذي يهدد الوطن والشعب ويتحمل الجيش مسؤولية هذه المهمة. وفوق ذلك بعناد تجاوز الإرادة الوطنية بقبوله استمرار تدفق الغاز إلى العدو الرئيسي، صنع هدفا دائما تبلورت من حوله تنظيمات أعلنت مسؤوليتها عن تفجيرات متعاقبة لخط الغاز ولتعلن أنها تنظيمات تابعة لـ بن لادن، وسواء صح هذا أو كان مجرد ادعاء، فإن النظرة الأولى لواقع سيناء يؤكد أنها تحولت إلى بؤرة انفصال عن الوطن الأم وهو الأمر الذي يشارك فيه البعض من الداخل والعدو الرئيسي في الخارج. إن مفترق الطرق الآن قد وصل إلى نقطة حرجة، ويبدو الأمر في حاجة إلى معجزة لتجاوزها، لأن الانقلاب على الثورة واقتناصها والدفاع عنها صارت هي فعاليات المرحلة الانتقالية، ومازالت دون حالة التفاعل المستقر ولكنها في حالة اقتتال دائم، لا يدفع المجلس العسكري ولا التنظيمات الدينية ثمنا لها بينما يدفع المدافعون عن الثورة الدم ثمنا وتحاصرهم آلة الإعلام للنظام السابق بكل أجهزتها بأضخم حرب نفسية داخلية تمثلت في حملة التشويه للعزل عن المجتمع والانفراد بهم وتصفيتهم بالقتل. التقى الانقلاب والاقتناص في مواجهة الثائرين، فاستخدم الجيش القتل وانطلقت التنظيمات الدينية في مظاهرة الصمت الكبرى بقبول انفرادها بسلطة خاوية على عروشها، وصار الاثنان المجلس العسكري والتنظيمات الدينية متهمين بسفك دماء الشباب فعلا وصمتا، لتتزايد الهوة داخل المجتمع بين المكونات السياسية المتاحة، بينما قوى الشعب غائبة عن المشهد لتفكك أصابها به النظام السابق، والمعانات المعيشية التي تطحن عظامهم. ليس هناك وصفة سحرية لحل الأزمة، ولكن تفكيكها إلى عناصرها الأساسية قد يتيح فرصة للتعامل معها، وقبل ذلك يجب الإجابة عن سؤال أساسي ماذا نريد؟ ومن نحن؟ والسؤال الثاني هام، فهناك مقولة سائدة في مصر الآن نتساءل: من فوضكم للحديث باسم الشعب؟ ويتلوها من فوضكم للحديث باسم الثورة؟ ولنبدأ من هنا. ليس هناك من هو مفوض من الشعب، ومن لهم فضل البدايات، ليس لهم حق الولاية على الشعب والثورة، وفوق هذا هناك من هم على طريق التضحية بالروح في سبيل الوطن ولكن أيضاً ليس لهم حق الولاية على الوطنية، فالوطنية مفهوم جامع وشامل، ولكن دون أن يتحقق مضمون الانتماء للشعب والولاء للوطن دستوراً وحركة وتكوينا اجتماعيا وأخلاقيا ومقاصد عليا سواء كانت ناتج البناء الحضاري أو ناتج إرادة التغيير في مرحلة الثورة، يسقط معنى الوطنية عمن يتغنى بها. قضايا الفساد وإهدار المال العام والمؤامرات من أجل التوريث والتزوير والتجارة مع العدو الصهيوني والانصياع للإرادات الخارجية جميعها هي شرخ في جدار الانتماء للشعب والولاء للوطن، وأخطر من ذلك كله "صناعة الخطر لحكم الشعب"، "والكذب والخداع" للتحايل على إرادة الشعب وإهدار إمكانية توفير احتياجاته. صناعة الخطر والتحايل على الشعب هي سمة الأداء الآن من القوى التي انقلبت على الثورة. وأداؤها في ذلك هو القتل والحرق، وذلك لا يمكن التعامل معه بمجرد الكلام، ونقطة ضعف القوى المضادة للثورة هي غرور القوة وعدم القدرة على توقع القادم وكذلك فهم يتحسبون للمفاجأة بحذر أدى إلى تباطؤ بلغ حد معاداة الشعب والتواطؤ ضد مخزون آماله، وتعظيم نقاط الضعف سوف يؤدي إلى نتيجة عكسية، ولن يكون الصدام الأمثل، بينما التسليم لهم يعني التفريط في الثورة نهائياً والاستسلام للاغتيال المعنوي فضلاً عن القتل. وعليه فإن موقف المقاومة يجب أن يستمر، وأول سمات المقاومة هي استمرار الحشد في مواجهة كافة صور الانقلاب على الثورة، ويضاف إلى ذلك الفكرة والعقل ولن يتأتى هذا بغير تولي طرف المقاومة مهمة الإعداد للفكرة والمضمون، مع استمرار المقاومة رغم كل أصوات الاحتجاج أو محاولة تفريغ الثورة من المقاومين. إن طرف الانقلاب ما زال عاجزاً عن تجاوز الثورة، ومع مرور عام على تفجر الثورة، فإن الشهادة لصالح قدرة المقاومين على الاستمرار، وفرضوا على خندق الانقلاب على الثورة الاحتماء خلف أسوار خرسانية وأسلاك شائكة، ودلالة ذلك أن هناك توازنا يمكن أن نطلق عليه "توازن الضعف" وهو "توازن حرج" وليس "توازن استقرار" يمكنه أن يؤدي إلى رؤية جامعة. لنتجاوز نتائج صندوق الانتخابات والذي لا يعبر عن مصر الحقيقية بمخزونها الحضاري ولكنه يعبر عن مصر التي صنعها المجلس العسكري باستخدام طارق البشري، وسط بيئة اتسمت بضعف الحياة السياسية وجرى استغلال ذلك الضعف والانشغال بلقمة العيش بأقصى حد، وليكن الأداء المقاوم فكرا وعقلا في بحث أمر دستور مصر الجديد، والذي يجب أن يشارك فيه جميع مكونات المجتمع وإن تطلب ذلك زيادة في عدد اللجنة التأسيسية لوضع الدستور للحيلولة دون السيطرة على هذه اللجنة وتوجيهها في اتجاهات لا تعبر عن حقيقة هوية الأمة ومخزونها الحضاري. لذلك فإن الدعوة لانتخاب رئيس للجمهورية قبل الدستور تزيد الأمر تعقيدا. فالرئيس القادم يجب ألا يكون مجهول الهوية تختاره ذات الأغلبية التي صاغت البرلمان، وهم دائما وفي كل تجاربهم يختارون من خارجهم الأضعف ليحكموه، فيحكموا هم، غير آبهين بما يمكن أن يترتب على ذلك. لم ننتخب جمعية تأسيسية لوضع الدستور وانتخبنا مجلسا تشريعيا بلا صلاحيات ولكن انكشف للجميع ماذا يمكن أن تصنع الصناديق بالمجتمع. لم تتمكن القوى الاجتماعية المنتجة في مصر من التعبير عن نفسها، وبديلا عن الشعب استدعينا الديكتاتورية الجديدة تحت عباءة الدين. إننا مطالبون بالدعوة إلى "مؤتمرات المصير" بذات عزيمة الشهداء والاعتصام والتظاهر، فستحدد هذه المؤتمرات المحاور الرئيسية للدستور ونظام الحكم، ونحن في حاجة ملحة لدراسة العلاقة الحاكمة للمؤسسة العسكرية في مصر بعد الثورة، وأن نحدد الخيار الاقتصادي الذي يربط بين التنمية والعدالة الاجتماعية. تغيير قواعد الاشتباك بين القوى المعادية للثورة والمعبرة عن الثورة والشعب لتصبح المقاومة شعبية وليست طلائع ممن وهبوا حياتهم لوطنهم ويتعرضون كل لحظة للاغتيال المعنوي بحملة التضليل والكذب والخداع. لقد نسي الجميع قانون العزل السياسي. وسقط أساتذة الدستور في قاع المجلس الاستشاري. ودخل المجلس العسكري في طور الاعتذارات بلا مضمون تمهيدا لموجة قتل جديدة. تغيير قواعد الاشتباك ضرورة لاستمرار الثورة، ودون ذلك فإن البدائل الأخرى تؤجج صداما دمويا قادما بالضرورة. حينما ارتمت حميدة في أحضان العسكري الإنجليزي تبيع جسدها لمن يشتري، كتب نجيب محفوظ معلقا في سياق رواية زقاق المدق: "خرجت حميدة إلى الوجود في بيئة الست الوالدة التي تعمل خاطبة وهي بيئة تتحدث ليلا ونهارا عن الطلاق والزواج والعلاقة بين الرجل والمرأة سواء في إطارها أو في غير إطارها فخرجت حميدة إلى الحياة عاهرة بالسليقة" تذكرت هذا أمام تصريحات عديدة تتري في الإعلام... وكأنها من نواميس السماء وليست عهرا بالسليقة.