12 سبتمبر 2025

تسجيل

ما هكذا تورد الإبل

27 نوفمبر 2022

يقول لاوتسزي، وهو أحد الفلاسفة الصينيين القدماء " لا يوجد في الكون مادة أنعم وأضعف من الماء، ولكنه قادر على تفتيت أكثر المواد صلابة ". فمن الحكمة أن يستخدم المرء الطريقة الأكثر ملائمة لتحقيق هدفه، أو الرسالة التي يريد أن يوصلها، ويبقى مثال الماء هو الطريقة الأكثر فاعلية، فالماء ينساب بطريقة لطيفة هادئة، ومع ذلك يغيّر في شكل التضاريس، فهو يتسرب من خلال الشقوق، ويذيب أعتى الصخور تدريجياً، دون أن يشعر أحد بذلك. إن استخدام منهج الماء في التأثير والإقناع قد أثبت فاعليته بجدارة، فهو يسير بنعومة وانسياب، فأسلوب الجاذبية الناعمة يصهر عناد المقاومة، فالقدرة على الجذب الرقيق دائماً ما تؤدي إلى الإذعان، إلى جانب ذلك يتصف هذا الأسلوب في مروره بالهدوء، بعيداً عن الجلبة ولفت الأنظار، ولا يمكن إدانته بشكل صريح، أو إيقافه بشكل نهائي بأي حال من الأحوال، فمن ذا يستطيع أن يتوصل إلى المسؤول عن تدفق الماء ؟ ومن ذا يستطيع محاكمته ؟ فهو يسير بطريقة قانونية لا تسمح بوجود فرصة لاتهامها ! وعندما لا يوجد متهم من الأساس تسقط التهمة وتُدحض من تلقاء نفسها ! بينما المواجهة والصدام والنشاطات الملموسة، نوع من التهديد الصريح تجفل منه النفوس، ويخلق ردود أفعال معاكسة، وجواً من التوتر وعدم القبول، وربما يساهم في خلق جبهات من التعنت والانتقاد لا يمكن مقارعتها أو التصدي لها، وفسح المجال للانقضاض والهجوم من أطراف مترقبة وحاقدة، بالإضافة إلى تأثيرها السلبي على المصادر المعنوية والحسية، وبالتالي نتائج كارثية غير مرغوب بها. إن اختيار الأدوات والأساليب الأكثر ملائمة، يقلل من ظهور أي مستمسك وثغرات يمكن الهجوم من خلالها، فإذا كان الهدف الرد على هجوم فكري أو عقائدي ناعم، فيمكن تمرير الأجندات واستغلال الفرص بنفس السلاح اللبق والماكر في نفس الوقت، وتقديم النماذج الجاذبة عن طريق القيم المشتركة، فالقدرة على تغيير وتشكيل التصورات والترجيحات والخيارات ليست بالشيء الهين إطلاقاً، إن الخطأ في استخدام النسق، يؤدي إلى انكشاف الرأس، وبالتالي التعرض لغارات ومداهمات أشد فتكاً، وأكثر صلابة، يصعب التصدي لها، خاصة إذا كان كل ذلك مراقباً ومرصوداً، وفي هذا قالت العرب قديماً "ما هكذا تُورد الإبل". إن العالم اليوم يعيش فضاءً مفتوحاً ومُلاحظاً يصعب الانفكاك منه، أو تجاهله، فالأبواق حاضرة لأي هفوة أو سقطة، والجلادون متهيؤون بسياط كلماتهم، التي تعمل على حشد الرأي العام المحلي والعالمي، بسرعة خاطفة لا يمكن كبحها، أو صدها كما يجب " فالعيار اللي ما يصيب يدوش " كما يقول المثل المصري. إن وجود الخطط المدروسة بعناية - بعيداً عن القرارات المتسرعة والمندفعة والتي تُتخذ في التو واللحظة، والمتأخرة ربما، يجعل من أدواتها أكثر فاعلية، وأشد إصابة للأهداف، وتضرب في هدوء وفق منهج منظم، ومسار ناعم متجنباً التشويش والإرباك ومتفادياً للمآزق، كما يقلل من الوقوع في شراك الخطأ، وما أجمل لو رافق ذلك كله الصبر والتريث، بعيداً عن الطنطنة والجلجلة وراء كل خطوة تحدث في الطريق لبلوغ الهدف، فهذا الضجيج الذي يعتقد البعض أنه قد يساهم في خطة المسير قد يتحول إلى واحدة من أكبر النقم الكؤود التي قد تُخل بطريق الخطة وتُربك خطواتها، فكتم التأثرات النفسية من غضب وسرور، ومودة وبغضاء مزية أخرى تقود إلى الحيرة، وصعوبة التكهن بالنوايا. إن القدرة على المناورة والمرونة، والتراجع خطوة واحدة أحياناً في سبيل التقدم عدة خطوات لاحقاً، والحكمة والدهاء مطالب ضرورية لمن أراد النيل من أعدائه وهو مبتسم.