15 سبتمبر 2025
تسجيلكنت أتساءل عن السر الذي يشدنا لسماع أو مشاهدة قصة بطولة أو حتى مسلسل تدور أحداثه في ساحات الرجولة والوفاء والنخوة، أو أي من تلك القيم التي بتنا نتلهف عليها.. وأحسست بأننا دوما ومهما كان واقعنا فإننا نحاول البحث في مسرح أذهاننا وخيالنا عن تلك القيم والمآثر والبطولات التي كثيرا ما تمنينا أن نحياها على أرض الواقع، فكم منا من أصحاب المثل الذين أتعبتهم أسفارهم في البحث في بلاد الواقع عن تلك المآثر، رجعوا من أسفارهم بخفي حنين وبمقولة قد رددناها مراراً وتكراراً: ليتني قد جئت بزمان غير هذا الزمان. وكل ذلك لأن صور الفروسية ومآثر النخوة والرجولة والوفاء بالعهد والحب الصادق والمروءة قد باتت كصورة موضوعة على جدار الزمن، نشير إليها كلما خذلنا من علقنا آمالنا عليه ولم يتحقق به الأمل، وكلما وضعنا أحداً في موضع ثقة وائتمناه على أنفسنا وخان الأمانة، وكلما ركبنا في سفن أحدهم نتحرى به شواطئ النجاة فإذا به يلقينا وسط أمواج الغرق، أو كلما اخترنا إنسانا وأسكناه في ثنايا قلوبنا البيضاء نسقيه دماء حبنا، فاستل خنجره ممزقا جدران قلوبنا الوفية.. وقد حاولت ان أسأل نفسي هل من الصعب على أحدنا ان يكون فارساً في المواقف التي تمر عليه وفي معايشته لمن حوله وفي أخلاقه وتعاملاته؟؟ أم إن المسألة متعلقة بالطريقة التي ننظر بها إلى المواقف التي تمر علينا وإلى الأشخاص الذين يعيشون معنا أو تلقيهم الأقدار في طريقنا فإما أن ننظر للمسألة من منظور الكاهن الأول أو الكاهن الثاني كما ورد في تلك القصة التي رواها لي والدي رحمه الله، والذي كان بحق فارساً في زمانه، تهابه الفرسان، حيث قال لي ذات يوم: كان كاهنان يهمّان بعبور نهرٍ غزير عندما اقتربت منهما امرأة باكية: أتوسّل إليكما أيها الكاهنان أن تساعداني في عبور هذا النهر. لقد عبرته في الصباح كي أجمع لأطفالي بعض الثمار والأعشاب البرية لإطعامهم، أما الآن فالنهر هائج ولا أستطيع عبوره بمفردي، رفض الكاهنان رفضاً شديداً فعقيدتهما لا تسمح للكاهن أن يلمس امرأة وإلا فسدت طهارته وخسر كهنوته! انفجرت المرأة بالبكاء: أتوسّل إليكما.. أطفالي بانتظاري. ستأكلني وحوش الغابة لو تركتماني أواجه قدري بمفردي، أرجوكما أن ترحما ضعفي وضعف أولادي.. فرّ أحدهما هارباً، بينما حنّ عليها قلب الآخر وشعر بضرورة أن يغيثها وينقذها رحمة بها وبأطفالها. رفعها على ظهره وعبر بها النهر، ثم بعد أن أنقذها تركها عند الضفة الأخرى ورحل. التقى الكاهنان بعد فترة من الزمن. قال الأول موبخاً الآخر: إنني أشكّ في كهنوتك بعد أن لامس جسدك جسد تلك المرأة. بدا الآخر مستغرباً وتساءل: أية امرأة تلك التي تعنيها؟!! "المرأة التي حملتها على ظهرك وعبرت بها النهر!.." أجاب الأول. ردّ الكاهن الطيب: يا صديقي، لقد حملتُ امرأة محتشمة على ظهري لأنقذها، تركتها عند الضفة الأخرى للنهر ونسيتُها. أما أنت، فمنذ ذلك اليوم وأنت تحملها عارية في ذهنك، إلى جانب أنك قد خذلتها، ثم أتيت الآن لتلومني عليها؟؟ والسبب في ذلك هو تهربك من عقدة الذنب التي تأكلك!! إذن فالأمر يتوقف على الكيفية التي ينظر بها أحدنا للمواقف، فإما أن يملي عليه ضميره ومبادئه أو حتى دينه فيعلم ان هناك يوما تحاسب فيه الخلائق، ويتذكر أن من فرّج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، وأن الدنيا يوم لك ويوم عليك، أو ينظر للمسألة من منظور المتخاذل والمتقاعس الذي يرضى بأن يقتات على أشلاء من حوله.. وهذا المعيار وهذه الكيفية وطريقة النظر للأمور لاشك أنها هي التي صنعت الفرق بين المعتصم إذ بلغه أن الروم قد أسروا امرأة وعذبوها، فصاحت وامعتصماه فضحكوا منها مستهزئين، وأين منك المعتصم وأنت بعمورية وهو ببغداد؟، فبلغه ذلك حتى جهز جيشاً أوله في عمورية وآخره في بغداد وحررها. وبين من استجارت به امرأة كسيرة فأغلق آذانه عن صراخها ومضى يزهو بتخاذله وجبنه وضعفه.. ورحم الله عمر أبوريشة إذ قال: رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم.. لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم.. فإذا انتخاك واستجار بك من ظن انك أهل للنخوة وأجرته، وإن وعدت فجعلت وعودك سيفاً على عنقك حتى تفي بوعدك لمن وعدته، وإن رحت تذود عن حماك حتى حفظته، وإن ساقت لك الأيام عزيزاً أذلته أقداره فأعززته، وإن لجأ لك مظلوم فنصرته، وإن تحريت كل موطن للمروءة والشهامة فدخلته.. إن سمعت من يستجير بك يوماً ويناديك (وامعتصماه) فلبيته.. حينها فقط تكون بحق (فارساً في زمان الجبناء).